محمد عطوان
أصدر الباحث والأكاديمي العراقي علي عباس مُراد كتاباً حَمل عنوان (ديستوبيا ـ كوابيس المدن الفاسدة في الأدب والفن)،
وهو كتابٌ نقدي يبحث في فكرة العصور المُظلمة قبال فكرة العصور الذهبية، والعوالم المخرّبة والفاسدة قبال العوالم الخيالية السعيدة.
كان قد قيل سابقاً إن اليوتوبيا معيارٌ نقدي يتناقض مع الواقع، ويستشرف صورة المكان والإنسان في اللا مكان تجاوزاً لصورته المعيوشة الرديئة، في محاولة للخروج عن الشروط الاجتماعية الموجودة بغية نفيها بمبتكرات مستقبلية، والتطلع إلى حالة تكون فيها كل الصراعات واللا توافقات قد أزيلت.. ومع ذلك، فاليوتوبيا تبدو إرجائية أو انتظارية هنا إن لم نقل هُروبية ومثالية (يصح وصفنا هذا لو أنها عجزت عن تخطي الواقع فعلياً وأبدلته بتصورات نظرية فقط).
وتماماً يمكن القول إن الديستوبيا معيارٌ أدبي نقدي أيضاً، لكنه معيار يُعاين الخراب والفساد في المكان نفسه، كما هو، وليس في مكان آخر غيره، فيعرض للكوابيس الثقيلة بما تحمله من رُعب، بخاصة عندما تصير التكنولوجيا منتجة لمثل هذه الكوابيس، فتتحول إلى وبال يحاصر الإنسان من كل جهة، فيبدو كل ما كان طبيعياً مصطنعاً، وكل ما كان مألوفاً غريباً على الكائن. فالديستوبيا تفضح المكان الذي تهيمن فيه الفكرة العقلانية ـ خياراً ـ وهي محمولة بإمكانيات التكنولوجيا الفائقة، فتواجه شعاراتها التنويرية الموعودة بوصف نقدي واقعي كئيب، واقع قائم ليس على الفوضى إنما على الشيئية والعقاب والمراقبة والارتياب والتحسّب..
تشير الديستوبيا إلى حقيقة قبح ما يجري في الواقع بفصاحة؛ وتُرينا الصورة العِلمية مقلوبة بكل تحولاتها وتشوهاتها، بخاصة عندما تتكشف نقاط الضعف في الطبيعة البشرية التي لا يمكن اخفائها مع تمامية التكنولوجيا وتغولها، ومع تسلطها، بمعنى أن الإنسان يقف عاجزاً عن تحقيق التكامل في هذا العالم، والمعاناة فيه هي جوهر البداية. بهذا المعنى يقف الإنسان مُستهلكاً سلبياً بتأثير من الشعارات الطنّانة والدعايات والأيديولوجيات التزويقية (المصطنعة) المعروضة أمامه.. و[الديستوبيا] تأتي هُنا بمثابة النقد السياسي والفلسفي المُحرَر من خلال الأدب ـ أنموذجاً تقريرياً.. وليس يوجد شيءٌ، لمواجهة عالمٍ مُصمم بدرجة صارمة من التخطيط الإداري والسياسي، غير الأدب مقولة تصفُ مرارة هذا العالم.
يقدّم الدكتور علي عباس مُراد في هذا الكتاب فرشة واسعة من الأعمال الأدبية الديستوبية لمؤلفين كتبوا في هذا المجال، بدءاً بكتابات القس البريطاني جوزيف هول في منتصف القرن السابع عشر في (عالم آخر مع أنه نفسه)، مروراً بـ جونثان سويفت في (رحلات جيلفر)، ووصولاً إلى جاك لندن في (العقب الحديدية)، ويفغيني زامياتين في (نحن)، والدوس هكسلي في (عالم جديد شجاع)، وجورج أورويل في عمليه ذائعيّ الصيت (مزرعة الحيوان) و(1984)، وانتهاءً بسوزان كولنز (مباريات الجوع).
يُبرِّر الدكتور مُراد سبب اختياره للكتابة في هذا الموضوع، بأن الكُتب المُخصّصة للدراسة العامة الشاملة لنماذج مُضادات المدن الفاضلة كما يسميها الفارابي (المدن الفاسدة) شحيحة، أو في الأقل تبدو الشحة واضحة في الكتب العربية تحديداً، إذ لم يصادف في دراسته عن المدن الفاضلة والمدن الفاسدة غير عملين وحيدين للباحثين العربيين أشرف توفيق وأنيس البرعصي. وثالث متخصص للمفكر الفرنسي وأســتاذ تاريخ الفكر السياسي في جامعة لندن غريغوري كاليــس، والذي ليس ثمة دليــل يمكن العثور عليه يُشير إلى ترجمته إلى العربية، في مقابل كثرة كاثرة من المقالات والدراسات المنشورة في مواقع شتى سواء عن موضوع الديستوبيا عامة أو عن مؤلفين تخيلوا نماذج المدن الديستوبية وأعمالهم المتعلقة بذلك.
ومن النماذج التي جرى تناولها: رواية (العقب الحديدية) للروائي الأمريكي جاك لندن والتي كانت تشير إلى فساد النظام الرأسمالي القائم على الجشع والتمايز الطبقي، والقائم على القهر والاستعباد، وهو يكتب ذلك من منطلق أيديولوجي اشتراكي، حيث النظام الاجتماعي المُعاصر يقوم على استغلال العمالة. لذلك ومن خلال اعتراض احد شخصيات الرواية على النظام وما يجري فيه يعدل بقية الشخصيات المتطامنة من مواقفهم المحافظة ليقبلوا بتلك النظرة الاعتراضية. وتعد رواية (العقب الحديدية) أولى النماذج الأدبية الديستوبية في مطلع القرن العشرين.
كذلك رواية (نحن) لزامياتين التي تدور في سياق حياة دولة صارمة يُطلق عليها مسمى الدولة الواحدة، أو العالم القائم على سياسة الضبط والمراقبة، حيث ذوات الأفراد مجرد أرقام، وانتظامهم ضمن علاقات انتاج عاطفية مقننة في ضمن وجود مكاني مصمم بطريقة البانوبتيكون، إذ الكل مُعرّض للرصد والمحاسبة في عالم أسواره من زجاج.
وللحيلولة دون حدوث أي عداء ضد هذه الدولة يتعرض المشكوك في ولائهم إلى استهداف أدمغتهم بالأشعة السينية أكس لإزالة المُخيلة والمشاعر عنهم. فثمة جماعة معارضة تحمل اسم الـ يمفي السرية تقبع خارج السور الأخضر تستجلب كل من لديه ميل انشقاقي أو انقلابي في أسوأ الاحوال. لذلك يخَضع الأفراد للمراقبة والضبط ، وتُقنّن سعاداتهم وحرياتهم في آن، إذ السعادة ـ من منظور الدولة الواحدة ـ لا يتطلب تحققها مستوى من الإباحة المفرطة.
ووفقًا لأورويل، تعكس (مزرعة الحيوان) ما جرى من أحداث في الثورة الروسية العام 1917، وما تلاها في الحقبة الستالينية في زمن الإتحاد السوفياتي. كان أورويل من النقاد الاشتراكيين المعادين للستالينية الموجهة من موسكو، وهو الموقف الذي اتخذه أثناء معايشته لنزاعات أيام مايو بين حزب العمال الماركسي والقوات الستالينية خلال الحرب الأهلية الإسبانية. والستالينية، كما هو عليه الحال، نظامٌ يقوم على عبادة الشخصية، ولأجل إدامته لا بد من الانخراط في سياسة الاعتقالات الجماعية والمحاكمات والإعدامات السرية بأوامر عرفية. ولقد صرح أورويل عقب صدور كتابه هذا بأنه أول كتاب كتبه بوعي عندما جعل الغرض السياسي يتصاعد مع الغرض الفني على السواء. أما روايته الأخرى ذائعة الصيت (1984)، فهي من الروايات الديستوبية اللاذعة، التي تصف مستقبلاً متخيلاً، محكوماً بحروب دائمة، وسياسات مراقبة حكومية متسربة في كل مكان، تعمل على التلاعب والتحكم بالذاكرة التاريخية للأفراد والجماعات، عبر الدعاية والتضليل وتكذيب الحقيقة. فهي تصوّر بريطانيا دولة اوقيانوسيا الشمولية العظمى التي يحكمها الحزب المعتمد على شرطة الفكر، والذي لا يتورع عن اضطهاد كل ما هو فردي ومستقل.
لقد وصفت هذه الرواية الحكم الستاليني أيضاً، والفترة الشمولية عموماً في تلك الحقبة. لذلك تشرح الرواية الحكم الشمولي الذي يتحكم بالأفكار عبر تحكمه باللغة، بانتاج أفكار وصياغات لغوية غير قابلة للتصور الحرفي.. ولقد جرى استعمال كثير من مفردات هذه الرواية في مباحث العلوم الانسانية وفي التوصيفات الصحفية؛ من قبيل اللغة المخادعة، التفكير المزدوج، شرطة الافكار، وبروفيلد، والأخ الأكبر.
أما رواية سوزان كولينز (مباريات الجوع) فتدور أحداثها حول الكابيتول وثلاثة عشر مقاطعة، وفي ذلك وصف متخيّل لما سيكون عليه واقع الولايات الأمريكية المتحدة في المستقبل.. إذ عقب سلسلة من الحوادث والكوارث والأزمات التي مرت بها المقاطعات، تظهر الكابيتول، تلك الحاضرة الموصوفة بالرائعة، جالبة الأمن والسلام والرخاء لمواطنيها. وإن كان هذا الرخاء يتم على حساب المقاطعات المستعبدة منها، وهو ما قاد إلى تمرّد المقاطعات ضدها.. فانتهى الأمر بهزيمة المتمردين عليها، وبإثر ذلك أُزيلت المقاطعة الثالثة عشرة، من الوجود. وقد فرضت الكابيتول سياسة عقابية للمقاطعات المتبقية، سمتها اتفاقية الخيانة لضمان السلام، تنص هذه الاتفاقية على تقديم كل مقاطعة من المقاطعات الاثنتي عشرة، في كل عام ضمن موسم سمته موسم الحصاد، واحدٍ من فُتيانها وفتياتها كقرابين أو مجالدين تتراوح أعمارهم ما بين 12-18 عامًا، يتم اختيارهم بالقرعة لدخول مباريات الجوع، حيث تحبس سلطات الكابيتول أولئك المُجالدين الأربعة والعشرين في محمية، ليتقاتلوا فيها حتى الموت، ويكون الفائز منهم، آخر مُجالد يبقى على قيد الحياة.
باختصار أن ما واجهه العالم في أوائل القرن العشرين هو الانتقالة الانسانية الفكرية الحادة من مراقي الفكر اليوتوبي إلى انحطاطات الديستوبيا.. بسبب ما جلبه النظام الرأسمالي والتطور التقني من افقار مطلق على المستوى المادي والمعنوي لحياة الكادحين، حيث الاستنزاف الكبير للموارد، والاستغلال المُفرط للبشر، والحروب المريرة التي عرّضت أرواح الملايين للموت، واستخدام الأسلحة التدميرية (الكيمياوية والذرية والبيولوجية)، وانتهاك الخصوصيات الثقافية للشعوب بمبررات كولنيالية مفضوحة الهدف. لذلك ظهرت الديستوبيا لتعبر عن الواقع الفعلي للأوضاع الإنسانية السلبية المعاشة، وتتنبأ بالواقع المستقبلي الأكثر سلبية وتدهوراً لهذه الاوضاع..
لكن، مع هذا، فقد بدت سلبية القرن الواحد والعشرين أكثر مضاعفة من سابقه عندما أسفرت سياساته الكونية عن ديستوبيا واقعية أكثر مرارة، فبدا المظلة الدولية لكل الغزوات الاستعمارية الثانية، والاحتلال الأجنبي المباشر والحروب الأهلية، والتعذيب والقتل والتطهير العرقي والديني والمذهبي، والتهجير والهجرة، والتشرد والغربة على الهوية وبسببها.. بدا هذا القرن المظلة الديستوبية للحكومات الفاسدة التي فرطت بالسيادة، ونهبت الموارد، وبددت الثروات، وهددت الناس في معاشهم وحاضرهم ومستقبلهم