TOP

جريدة المدى > عام > أبي وآينشتاين وفاينمان.. مذكرات عالم فيزياء

أبي وآينشتاين وفاينمان.. مذكرات عالم فيزياء

نشر في: 6 يوليو, 2021: 11:24 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

القسم الأوّل

موراي غيلمان (Murray Gell-Mann 1929 – 2019) عالم فيزياء أمريكي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 لعمله في نظرية الجسيمات الأساسية.

عمل لسنوات طويلة أستاذاً للفيزياء في معهد كاليفورنيا التقني Caltech، كما أنه زميلٌ مميز وأحد المساهمين في تأسيس معهد سانتا في Santa Fe Institute الذي يسعى لدراسة ظاهرة التعقيد Complexity والنظم الدينامية المعقّدة والمشتبكة.

ألّف غيلمان عدداً من الكتب، واشترك في كتب أخرى وبضمنها منشورات تأسيسية مهمّة عن علم التعقيد نشرها معهد سانتافي. أهمّ الكتب التي ألفها غيلمان هي التالية:

- الكوارك والفهد: مغامراتً في العالم البسيط والمعقّد، 1995

- The Quark and the Jaguar: Adventures in the Simple and the Complex , 1995

- الطريق ثماني المسارات، (توجد طبعات كثيرة له آخرها طبعة 2018)

- The Eightfold Way , 2018

لن أقدّم في هذا التقديم المقتضب صورة مسهبة لحياة غيلمان؛ بل سأدعه يتحدّثُ عن طفولته والمؤثرات الغريبة التي شكّلت حياته المهنية والشخصية لاحقاً، وأهمّ الشخصيات التي أثّرت في حياته. إنّ دافعي من هذه الترجمة لمعالم من حياة هذا الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل هو:

أولاً: الكشف عن جوانب من العناصر الصراعية التي تكتنف حياة المرء وهو يجهد في بواكير حياته لرسم مستقبله المهني؛ إذ غالباً مايترتّبُ على الأخطاء الجوهرية في إختيار نوع الدراسة نتائج وخيمة قد تقترب أحياناً من وصف المآسي المفجعة وبخاصة في بيئتنا العربية حيث يعاني بعضُ أذكى العقول الشابة من ظروف صعبة تدفعهم لاختيارات أكاديمية لاتلامس شغفهم حتى ينتهي الأمر بهم لخسارة أنفسهم وضياع مواهبهم الثمينة ودفنها. لطالما تساءلت: ألايوجد في بلداننا العربية من يستحقُّ نيل جائزة نوبل في الفيزياء مثلاً ؟ تخبرنا البداهة أنّ مثل هؤلاء موجودون لكنهم أضاعوا أنفسهم وخسروا مواهبهم الثمينة وانغمسوا في حياة تقليدية صارت عبئاً عليهم بسبب متطلبات مجتمعية مفروضة فحسب.

ثانياً: بيانُ أنّ النشاط العلمي والعمل في حقوله البحثية المختلفة إنما هو نشاط بشري في نهاية المطاف وليس ممارسة طهرانية فوقية تتعالى على المؤثرات البشرية؛ لذا فمن المتوقّع والمقبول أن نشهد عناصر صراعية متضادة تعمل في البيئة الأكاديمية حتى في أرقى الموائل الأكاديمية التي تتسيّدُ الجامعات والمؤسسات البحثية العالمية. سنرى مثلاً في المادة المترجمة التالية صورة لعالم الفيزياء المرموق (ريتشارد فاينمان) تتناقض مع الصورة الدرامية المعروفة عنه.

الآتي هو أغلب المادة المترجمة المنشورة على موقع Edge.Org الذي يديره جون بروكمان John Brockman المعروف عنه مناداته بالثقافة الثالثة، وقد كتب غيلمان هذه المادة ونشرها في الموقع المذكور بتأريخ 30 يونيو (حزيران) 2003 تحت عنوان:

صناعةُ فيزيائي The Making of a Physicist

ويمكن للراغب في الرجوع إلى أصل المقالة في الموقع المذكور الإستعانة بالرابط الألكتروني التالي:

https://www.edge.org/conversation/murray_gell_mann-the-making-of-a-physicist

المترجمة

وُلِدتُ في جزيرة مانهاتن (في نيويورك) قبل بضعة أسابيع من الإنهيار العظيم لسوق الأسهم، ونشأتُ هناك طيلة فترة طفولتي باستثناء بضع سنوات سادت فيها المفاعيل المحزنة للكساد الكبير عندما تراجعتْ أحوال عائلتي وأرهقتها مشقات معيشية ماعدنا معها قادرين على الإيفاء بمتطلبات دفع إيجار منزلنا في مانهاتن. لم يكن الإنهيار في سوق الأسهم هو وحده ماأذن ببدء الكساد الكبير بل ترافق ذلك مع القانون شديد الوطأة المسمّى (قانون المواطنين الأصَلاء National Origins Act) الذي أجيز عام 1924 وبلغ أوج قوّته التنفيذية عام 1929، وترتب عليه تحديد كبير في أعداد المهاجرين إلى أمريكا (أبطِل هذا القانون في ستينيات القرن الماضي، المترجمة). شكّل هذان التطوّران علامة سيئة لأبي لأنه كان يديرُ مدرسة صغيرة لتعليم اللغة: كان أبي مهاجراً يتحدّث الألمانية، هاجر إلى أمريكا من الجزء النمساوي من الإمبراطورية النمساوية – المجرية، وقد تعلّم الحديث بإنكليزية طلِقة لاتشوبها شائبة وهو لمّا يزل في أوّل شبابه؛ فكان لفظه للكلمات الإنكليزية وسيطرته النحوية كامِلَيْن مثل أي أمريكي متمرّس في اللغة حتى بات من العسير أن تنتاب المرءَ شكوكٌ في كونه مهاجراً لأنه ماكان أبداً يرتكب أخطاء لغوية حتى لو كانت يسيرة. جاهد أبي للعمل في وظائف صغيرة مختلفة حتى أصاب بعضاً من النجاح آخر الأمر في إدارة مدرسة صغيرة لتعليم اللغة الإنكليزية (للمهاجرين)، وكان إلى جانب تعليمه الإنكليزية للمهاجرين الجّدُد يعلّمُ الألمانية، ووظّف عدداً من المعلّمين لتعليم بعض اللغات الأخرى؛ لكنْ برغم كلّ الجهود المبذولة من جانبه فقد ترافق الكساد الكبير مع ندرة المهاجرين في تدمير مستقبل مدرسته، ولم يكن أمامه من سبيل سوى أن يغادر ونحن معه مقاطعة (غراميرسي) التي كنّا نقيمُ فيها وكنتُ فيها طفلاً صغيراً إلى منطقة جديدة قريباً من حديقة حيوان برونكس. عُدْنا بعد بضع سنوات إلى منطقة مانهاتن حيث نشأتُ هناك.

قدم أبي إلى أمريكا في العقد الأوّل من القرن العشرين. كان شاباً يافعاً حينذاك يتجاوز قليلاً سنّ العشرين، وسبق له أن قضى سنة يَدْرُسُ في جامعة فيينّا ثم أعقبها بسنة أخرى في جامعة هايدلبرغ في ألمانيا. كان مُقدّراً له أن يعود لجامعة فيينا عقب ذلك لقضاء سنة جامعية ثالثة وأخيرة في دراسته الجامعية الأولية؛ حصل أن هاجر أبواه (جدي وجدتي – المترجمة) إلى الولايات المتّحدة الأمريكية واستبقياه في فيينّا؛ لكنّ سوء أحوالهما في مهجرهما الجديد دفعهما ليطلبا منه القدوم إلى أمريكا ومدّ يد العون إليهما، وهذا ماحصل بالفعل. كان أبي عند هجرته يعرف القليل جدا من الإنكليزية؛ لكنه ماتخاذل ولاتملّص من التزاماته: ذهب إلى ولاية فيلادلفيا سعياً للعمل في دار أيتام، وهناك تمكّن من أصول اللغة الإنكليزية وقواعد لعب البيسبول بمساعدة الأيتام الذين إلتقاهم هناك. كان أمراً حسناً أقدم عليه أبي عندما إختار الهجرة إلى أمريكا؛ إذ ربّما لو أنه لم يفعل ذلك لكان – على الأرجح – قد إنتهى قتيلاً بن ملايين القتلى في الحرب العالمية الأولى.

عاشت أمي معظم حياتها في نيويورك، وآمنت لوقت طويل بأنها أمريكية الأصول، مولودة في أمريكا، وليست مهاجرة مثل أبي، وقد صوّتت أربع أو خمس مرّات في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية قبل أن تقتنع بإيمان راسخ أنها جاءت أمريكا مهاجرة مع أبي من الإمبراطورية النمساوية – المجرية وهي لمّا تزل شابة يافعة.

كانت أمي كائناً لطيفاً وذات مزايا رقيقة للغاية، وتحنو علينا طول الوقت؛ لكنها كانت قد فقدت قدرتها على التعامل مع أي شيء يمتُّ بصلة لعالم الفكر، ولستُ أعرفُ حتى اليوم كيف ولماذا حصل هذا: عندما كانت أمي في مرحلة الدراسة الثانوية كانت تحوز دوماً علامات مرتفعة في الإمتحانات، وتشيرُ تقارير نتائجها الإمتحانية أنها أبلت بلاءً مميزاً في كلّ من مواد الجبر واللغة الإسبانية؛ لكني لاأظنها كانت قادرة على تذكّر صيغة جبرية واحدة أو حتى كلمة واحدة من اللغة الاسبانية عندما بدأتُ أعرفها بطريقة متفحّصة. كانت تحبّ الدراسة في كلية؛ لكنّ زوج أمها رفض ذلك وأخبرها بوجوب إنخراطها في عمل، وهنا ماكان أمامها من سبيل سوى أن تختار الدراسة في مدرسة لتعليم مهارات السكرتارية، وقد أجادت في دراستها هناك بعد أن تفوّقت في الضرب على الآلة الكاتبة فضلاً عن أنّ لفظها الإنكليزي وإجادتها قواعد النحو كانا دوماً من مهاراتها الممتازة بين مهارات عديدة أخرى.

قامت أمي بعملها السكرتاري خير قيام في الوقت ذاته الذي رعت فيه أسرتها، وكانت أمّاً مُحِبّة لنا لأبعد الحدود المتصوّرة. كانت هناك فكرة تملّكت عقل أمي مفادُها أنني كنتُ طفلاً ذا قدرات مميزة بعض الشيء؛ لذا سعت بكل جهدها إلى إلحاقي في مدرسة خاصة برغم أنّ أبي لم يُبدِ أي إهتمام بهذا الأمر، ومن جانبي لم أكن أعرف ماالذي يحصل، وكلّ ماكنتُ أفعله هو مراكمة نجاحاتي المدرسية التي أنبأت بها علاماتي في مدارس حكومية مختلفة في أنحاء متعدّدة من مدينة نيويورك. الآن صرتُ أدركُ بالطبع أنّ جهودي تلك ماكانت سوى محاولاتٍ حثيثة من جانبي للحصول على مقعد في مدرسة خاصة بمنحة دراسية كاملة، وعلى الرغم من فشل كلّ محاولاتي – لسوء الحظ – لكنّ محاولةً بين تلك المحاولات إنتهت إلى نجاح عندما إستطاعت مُدَرِّسة موسيقى شابة جميلة تدعى (فلورنس فرينت) من إلحاقي بمدرسة كولومبيا الثانوية.

كان أخي (بنْ) مصدر تأثير مدهش في حياتي؛ فقد علّمني – تقريباً – كلّ شيء عرفته وأنا طفلٌ يافع. كنّا أنا وبِن نفعل كثيراً من الأمور المحبّبة لنا معاً: كان يحبّ مراقبة الطيور، وكان كلّ منا مولعاً بزراعة النباتات والأشجار، ومطاردة الفراشات والعديد من الأمور المماثلة. عندما عدنا إلى منطقة مانهاتن بعد سنوات الكساد الكبير كنتُ برفقة بِنْ نعاودُ الذهاب إلى منطقة برونكس الواقعة شمال حديقة حيوان برونكس، هناك كنّا نستمتعُ بمراقبة الأطيار من شتى الأصناف لأنّ تلك المنطقة كانت لم تزل إمتداداً طبيعياً متبقياً لغابة نبات (الهملوك- الشوكران بالعربية ) التي غطّت كامل منطقة نيويورك في سالف الأيام.

تعلّمتُ الكثير من الأمور في وقت مبكّر بالمقارنة النسبية مع أقراني: علّمني أخي بن أوّليات القراءة عندما كنتُ في الثالثة، وعندما كنا نزور أقرباءنا إعتاد أخي أن يطلب إليّ قراءة نصّ ما ونحنٌ جلوسٌ في المطبخ. إستطعتُ مع السنوات تحسين قدراتي القرائية وتسريعها، وكان من الواضح للجميع أنني أتقدّم أقراني في قدراتي على التعلّم الذاتي.

كان أبي وأخي مولعان بطريقة لفظ كلمات معيّنة بلغات مختلفة، وكنّا جميعاً نشاطرهما هذا الولع، ونجحنا في الاقتراب من قدراتهما في التلفظ الصحيح باستثناء اللغة الالمانية التي كنا نقتربُ من لفظ مفرداتها الصحيحة لكن مع مثالب هنا وهناك. أعتقدُ أنّ هذه هي البداية التي دفعتني لتعظيم ولعي الدائم بعلم الإيتيمولوجيا Etymology (علم أصول المفردات اللغوية، المترجمة) فضلاً عن الولع بالبحث في العلاقات بين اللغات، وأعتقدُ أنّ أحد الكتب التي كانت بحوزة أبي هي التي عزّزت دافعيتي للتعمّق في هذا المبحث. عندما كنتُ طفلاً صغيراً كان علينا العيش في مرحلة ما في شقة صغيرة؛ الأمر الذي أضطرّ معه أبي للتخلّي عن مكتبته الكبيرة والإكتفاء ببضعة كتب، وكان بين تلك الكتب القليلة كتابٌ تناول الجذور الاغريقية واللاتينية للمفردات في اللغة الانكليزية.

( يتبع القسم الثاني)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram