عبدالمنعم الأعسم
الحرب الاوكرانية، للاسف، افسدت الكثير من اصدقائي، ليس في تحيّز بعضهم الى هذا الطرف وبعضهم الآخر الى ذاك (فمن حقهم ذلك) بل في “الحميّة” الحربية الاستثنائية التي ركبوا لغتها ومخاطرها، إذْ لبس الكثير منهم اردية الجنرالات وصاروا يسهرون الليالي امام خرائط تتداخل من عليها الجيوش وتَدُكّ فيها الصواريخ حواضر وسكان المدن، في حين تنهال عليّ (منهم) الملامات،
والغمز واللمز، وايضا اتهامي بين الحنين الى الايديولوجيا المتوفاة أو السقوط في الليبرالية المتوحشة.. وانا (في طبعي) لا أحنّ الى تلك، كما حصّنتُ نفسي (من زمان) ضد السقوط في حبائل الولاء، منذ ان طوينا تلك الحروب التي كنا نسميها بالحروب العادلة، او الحروب الثورية.
ان الحرب هي الحرب.. فهي، يقول صاحب الحرب والسلام ليو تولتسوي “تُفسد الناس في عام واحد أكثر مما تفسدهم ملايين من جرائم النهب والقتل التي يرتكبها الافراد خلال ملايين السنين” ويستطيع المتابع من موقع هذه الانتباهة المدوية ان يكتشف عقم اسباب الحرب الاوكرانية التي اشتعلت (اولا) في نقطة تماس “قومية” بين الروس والاوكرانيين، لتمتد (ثانيا) الى ستراتيجيات التوسع الاستعماري، في حرب غاشمة من جنس حروب القرن السابع عشر القومية حيث وصف اينشتاين تلك “القوميات” الجامحة التي تشعلها كمرض “من امراض الطفولة” وقرر انها “حصبة الجنس البشري”.
في الماضي، كانت ثمة استحالات امام حل مشاكل الدول بوسائل المراضاة ومعاهدات السلم واعتماد مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير واحترام السيادات، وبرغم تحولات العالم نحو فرص السلام وحلول امكانيات تجنيب الشعوب اهوال الحروب والمذابح والاحتلالات لكن حكام ستراتيجيات التوسع لم يتعظوا من تجاربها، ولا تهمهم الكلفة التي تدفعها الشعوب عن عنادهم، والغريب انهم جميعا يتعاملون مع الحرب باعتبارها نزهة، او كتمرين على اختبار عظمتهم.
ومن زاوية يبدو للمحلل ان الامر ينطوي على شيء من الجنون، حين يخرج المستبدون الى حرب انتحارية غير معروفة نتائجها، ثم سرعان ما تُثخن جراحهم، فيدخلون في مفاوضات السلام على اشلاء الجثث وخراب المدن ودوامات الخوف والخسائر باهضة التكاليف، وذلك بانتظار طرف حكيم يدلّهم الى منفذ من الكابوس: صعد مجنون هارب من المستشفى منارة بقصد الانتحار، حيث فشل جمهرة الناس في اقناعه بالعدول عن ذلك، الى أن جاءهم طبيب المستشفى بمجنون آخر، وطلب اليه إقناع زميله بالنزول، فصاح به قائلا “إذا لم تنزل فسأقص المنارة بالمنشار” وهكذا نزل المجنون من اعلى المنارة طائعا.
اقول.. من جانبي، لا اجد سببا واحدا لتحبيذ حرب تجري لكسب اشبار على الارض، او لتمجيد زعامات سياسية كل شيء لديها ثمين باستثناء دماء المدنيين الابرياء، بمن فيهم جنود مساقون بالاوامر، كما لا اتوقع (على اي حال انتهت اليه الحرب الاوكرانية) ان تدق اجراس السلام لنياشين فخر على صدور الضحايا المنسيين بل ستحتفي بمشعلي الحرب انفسهم كغالبين.. واصدقائي الطيبين، من الطرفين، ومعهم ضحايا الحرب، وحدههم مغلوبون.
استدراك:
«الثقة الزائدة تنتهي الى غرور، والمديح الزائد يغدو نفاقا، والتفاؤل المفرط يصبح سذاجة».
فيكتور هوغو