علاء المفرجي
يلماز كونيه الروائي والمخرج الكردي التركي والذي يعد الأب الروحي للسينما التركية ، عاش يلماز كونيه (47 )عاما قضى (11 ) منها في غياهب السجون، ونصف سنة في المنفى، وخدم في الجيش سنتين - في سرية الانضباط، وتشرد ثلاثة أعوام في ديار الغربة. لقد منحه القدر وقتا قصيرا للإبداع؛ لكنه قام بمأثرة وطنية، فقد كتب السيناريو لـ (53 ) فيلما، ومثل في (110 ) أفلام وأخرج (17 ) فيلما، وأصدر (4 ) روايات ومئات القصص. فما أكثر ما كان في إمكان هذا الكاتب الإنسان أن يبدع، لو عاش أكثر!)
عاش يلماز كونيه وأبدع في مرحلة تتسم بالاضطراب في تاريخ تركيا. فقد جرى صراع حاد خلال سنوات عديدة على السلطة، بين الرجعية والبورجوازية الليبرالية. وحاولت التيارات الدينية والموالية للفاشية استلام السلطة في البالد، وعم الارهاب والأضطهاد تركيا. على هذا المنوال جرت الاحداث: أدت الاجراءات القاسية ضد حركة العمال المطالبين بحقوقهم، واتباع السياسة المناوئة للأفكار اليسارية، إلى تقويض نفوذ حزب الشعب الجمهوري، الذي كانت بيده مقاليد السلطة لأكثر من 27 عاما.
أن إبقاء البلاد في دوامة الأحلاف العسكرية العدوانية، والاحتفاظ بنصف مليون عسكري تحت السلاح، قد أديا إلى مضاعفة تمويل الميزانية العسكرية، لصالح الاغراض الحربية. وأدى ذلك، من ثم، إلى نسف اقتصاد البالد. وعانى دافعو الضرائب أعباء ثقيلة، بسبب التكاليف الضخمة للتعبئة العسكرية. وإن الزيادة المستمرة للضرائب، وارتفاع أسعار المواد التموينية الضرورية، قد أديا إلى تدهور الاحوال المعيشية للجماهير.
تظهر معالم الاحتجاج الاجتماعي في إبداع يلماز كونيه جليّة، أكثر فأكثر، حتى بعد 50 سنة من فهي تحكي عن بلد تبقى فيها الديمقراطية شيئا ً خياليا. ناهض يلماز كونيه، ككاتب وسينمائي، ضد المضطهدين والقوى المتخلفة، فقد سبح على الدوام عكس التيار. ففي عام 1974 ألقي عليه القبض بتهمة ملفقة، مفادها أنه قتل المدعي العام في (أيلجة).
هكذا كانت حياه كونيه الكاتب والسينمائي في بلده، والتي يوثقها أ. حسينوف بترجمة أحمد أحمد . يقول الناقد إبراهيم العريس: “حياة تبدو خارج المألوف تماماً. بل أقرب الى الأسطورة. والحقيقة ان يلماز كونيه يعتبر أسطورة حقيقية، هو الذي طلع من الحضيض تماماً، من حضيض بؤس الفلاحين المغامرين والمقامرين بحياتهم في المناطق الزراعية المحيطة بأضنة في الجنوب التركي، ليصبح خلال فترة قياسية من الزمن واحداً من السينمائيين الأكثر حضوراً في السينما الأوروبية. وبفضل ماذا؟ بفضل أفلام تقول الحكاية انه أدار إخراج الأفضل من بينها وهو في زنزانته في السجن.»
لكن يلماز كونيه لم يحظ بمكانته الأساسية كسيد من سادة السينما التركية الجادة والجديدة إلا سنة 1970 حين أنجز «الأمل» (أوموت)، هذا الفيلم الذي اعتُبر، عالمياً، بداية كونيه الحقيقية إذ راح يدور، في الخارج، من مهرجان إلى آخر وراحت أقلام النقاد العالميين تكتب عنه بحماسة، حتى وإن كان موضوعه – في ذلك الحين – قد بدا عصياً على الوصول إلى المتفرج الشعبي التركي الذي كان كونيه يسعى أصلاً إلى التعبير عنه والوصول إليه. ويتحدث «الأمل» عن حوذي يقتل سائق سيارة حصانه، مصدر رزقه الوحيد ورزق عائلته. هذا الموضوع البسيط حوله كونيه مع مسار الفيلم الى موضوع كافكاوي بامتياز. والحقيقة ان كونيه إن كان عجز عن ايصال حبكة الفيلم الى متفرجه، أوصل إليه عدوى الثورة وحس التمرد على الأوضاع القائمة، مصوراً البؤس والجوع اللذين تعاني منهما ملايين الأتراك. ومن هنا كان من الطبيعي ان يربط النقد العالمي سينماه بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية، ما زاد من احترام الجمهور التركي له، وبالتالي من حذر السلطات الرقابية التركية حياله.
لم يكن السجن ليلماز جدران مغلقة بل عالم جديد من العمل واختراق الذات وانفعال الفكر والقهر والخيال والحب ليكتب من عالمه هذا اجمل سيمفونياته وأجمل ملاحمه فقد كتب رائعته (صالبا) عام 1973 من سجن السليمة والتي طبعت داخل تركيا اكثر من سبع مرات وطبعت خارج تركيا بعدة لغات حيث طبعت في سوريا مرتين وكتب رواية (معادلات مع ثلاث غرباء) وكتب مئات القصائد والمقالات كما كتب سيناريوهات اكثر من فيلم داخل السجن وكان أكثرها شهرة فيلم ( الرفيق. القطيع وآخرها فيلم الطريق ).
انه ليحق لنا أن نسمي فن كوناي فن الحرية وليس بفن السجون لأنه كان يدرك حريته داخل السجن اكثر ما كان يحسها خارجه.