نيكولا مونسو *
ترجمة: عدوية الهلالي
يسلط دور تركيا في الصراع الروسي الأوكراني الضوء على علاقاتها المتضاربة مع جيرانها وحلفائها الغربيين.ففي السنوات الأخيرة ،
غالبًا ما كان ينظر إلى السياسة الخارجية التي تتبعها تركيا - في سوريا أو ليبيا أو ناغورنوكاراباخ أو شرق البحر الأبيض المتوسط - من قبل شركائها الغربيين التقليديين (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) على أنها تدخلية مفرطة، بل عدوانية. .كما كانت هناك توترات كثيرة بين أنقرة من جهة وواشنطن والأوروبيين من جهة أخرى.
ومنذ شباط2022، أدى الصراع في أوكرانيا إلى إعادة خلط الأوراق.وبعد أن وضعت أنقرة نفسها كوسيط بين كييف وموسكو، أصبحت مرة أخرى لاعباً رئيسياً على الساحة الدولية.
ومثل الأزمة الاقتصادية أو الزلازل التي حدثت في شباط الفائت، فإن النشاط الدبلوماسي التركي سيؤثر بلا شك على الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة ، والتي ستعقد في 14 آيار ،وقد تؤدي إلى نهاية عهد رجب طيب أردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية ، التي بدأت في عام 2002.
وبينما كانت تركيا والاتحاد السوفيتي خصمين ايديولوجيين خلال الحرب الباردة،طورت أنقرة على مدار العشرين عامًا الماضية "شراكة استراتيجية" مع روسيا على أساس علاقة متناقضة: التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري الذي يعززه من ناحية إقليمية المنافسات من جهة أخرى (في سوريا وليبيا وناغورنوكاراباخ ، إذ دعم الجانبان ، ولا يزالان يدعمان ، المعسكرات المتعارضة). ولم يتوقف حجم التجارة عن النمو منذ عشرين عامًا ، حيث تعتمد تركيا اليوم اعتمادًا كبيرًا على موسكو لاحتياجاتها من الطاقة (روسيا هي موردها الرئيسي للغاز) وشركة روساتوم الروسية بصدد بناء محطة للطاقة النووية. كما ان السياحة من روسيا ، والتي تقدر بعدة ملايين زائر سنويًا ، تمثل أيضًا مصدرًا أساسيًا للعملة الأجنبية لتركيا.
وفي سياق تدهور العلاقات بين روسيا والدول الأوروبية ، لا شك في أن هذه التبادلات يجب أن تتعزز في المستقبل ، ويسهلها عدم وجود تأشيرات للسفر بين البلدين والحفاظ على الروابط الجوية المباشرة بين تركيا وروسيا..وبالإضافة إلى ذلك ، يستخدم العديد من رواد الأعمال الروس تركيا لشراء البضائع الأوروبية من خلال التحايل على العقوبات الغربية ، مما دفع البعض إلى اعتبار تركيا بمثابة "حصان طروادة" للعقوبات ضد روسيا.
أخيرًا ، أدى التقارب الاستراتيجي بين البلدين إلى تنفيذ التعاون العسكري ، كما يتضح من شراء أنقرة في عام 2017 لأنظمة الدفاع الجوي من موسكو ، مما أدى إلى احتجاجات حلفاء تركيا في الناتو واعتماد عقوبات من قبل الولايات المتحدة: ففي تموز عام 2019 ، استبعدت إدارة ترامب مشاركة تركيا من برنامج بناء الطائرة المقاتلة الأمريكية F -35. وفي كانون الاول عام 2020 ، حظرت الولايات المتحدة أي تصاريح جديدة لتصدير الأسلحة من الوكالة الحكومية التركية المسؤولة عن مشتريات الأسلحة. وفي نهاية المطاف ، قد تدفع هذه العقوبات الأمريكية تركيا إلى الاقتراب أكثر من حلفائها الغربيين.
وإلى جانب هذا القرب المتزايد من روسيا ، منذ اختفاء الاتحاد السوفيتي ، طورت تركيا علاقات اقتصادية مهمة مع أوكرانيا ، حيث يقع كلا البلدين على حدود البحر الأسود، إذ تستورد أنقرة الحبوب والبذور الزيتية من أوكرانيا ، التي يتدفق سياحها إلى السواحل التركية على مدار العام (مليونا في عام 2021 ، في المركز الثالث بعد روسيا وألمانيا). وقد توقفت السياحة من روسيا وأوكرانيا ، التي كانت تمثل ربع الإجمالي في عام 2021 ، بشكل مفاجئ اعتبارًا من شباط 2022 ، على الرغم من جهود السلطات التركية لإحيائها. وبالإضافة إلى ذلك ، أصبحت تركيا دولة مضيفة للعديد من اللاجئين الأوكرانيين الذين فروا من الحرب ، ولكن أيضًا للعديد من الروس الفارين من القمع في بلادهم أو من التعبئة أو آثار العقوبات الغربية. وقبل كل شيء ، منذ ضعف علاقاتها مع شركائها الغربيين ، لجأت أنقرة إلى كييف لتطوير تعاون معزز في صناعة الدفاع وتصدير إنتاجها من الطائرات بدون طيار. وفي آيار عام 2016 ، تم توقيع أول اتفاقية أسلحة رسمية على توريد طائرات بدون طيار تركية من طراز (بيرقدار) إلى أوكرانيا.
وفي آب عام 2020 ، نصت اتفاقية ثنائية على زيادة التعاون بين الصناعات الدفاعية التركية والأوكرانية ، مع إقامة مشاريع مشتركة في إنتاج السفن الحربية والطائرات بدون طيار وتبادل المعرفة والمعدات. وفي عام 2021 ، تم تدريب البحارة العسكريين الأوكرانيين من قبل تركيا. كما تم توقيع اتفاقية للإنتاج المشترك للطائرات بدون طيار في تشرين الثاني عام 2021 ، ومن المقرر افتتاح مصنع لإنتاج الطائرة التركية بدون طيار في أوكرانيا في نهاية عام 2023.
وخلال زيارة قام بها الرئيس أردوغان إلى كييف في أوائل شباط عام 2022 ، وقع البلدان اتفاقية التجارة الحرة التي تعزز تعميق التعاون العسكري والتكنولوجي الثنائي من خلال مضاعفة مشاريع الدفاع المشتركة ، بما في ذلك على وجه الخصوص عمليات نقل التكنولوجيا. وخلال الربع الأول من عام 2022 ، تضاعفت صادرات الأسلحة التركية إلى أوكرانيا.
إن علاقة اعتماد تركيا على روسيا ، كما يتضح من عدم التوازن القوي في التبادلات الاقتصادية والتجارية بين البلدين ، جنبًا إلى جنب مع علاقاتها الاقتصادية والعسكرية المتميزة مع أوكرانيا ، دفعت أنقرة إلى عدم اتخاذ موقف كامل في الصراع في محاولة منها لتلعب دور الوسيط. فمن ناحية ، أعربت تركيا دائمًا عن تضامنها مع أوكرانيا في صراعها مع روسيا. كما أدانت ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 ولم تعترف أبدًا بجمهوريات دونباس التي نصبت نفسها بنفسها. ونددت بالعدوان الروسي على أوكرانيا ، ودعت موسكو إلى سحب قواتها وإغلاق مضيق البحر الأسود أمام مرور السفن الحربية الروسية. لكنها ، من ناحية أخرى ،لم تطبق العقوبات الأوروبية على موسكو. وفي هذا السياق عرضت مساعيها الحميدة لتسوية النزاع. ومنذ شباط عام 2022 ، تم تنظيم ثلاثة اجتماعات بين الدبلوماسيين الروس والأوكرانيين على الأراضي التركية. وفي الوقت نفسه ، يعد رجب طيب أردوغان أحد قادة العالم القلائل الذين يمكنهم التحدث إلى فلاديمير بوتين وفولوديميرزيلينسكي ، وكلاهما التقى بهما شخصيًا في عام 2022. لقد لعبت تركيا أيضًا دورًا حاسمًا من خلال توقيع اتفاقية الحبوب الأوكرانية الروسية في تموز 2022 تحت رعاية الأمم المتحدة ، والتي سمحت بتصدير ما يقرب من 25 مليون طن من الحبوب الأوكرانية إلى خارج البلاد والوصول إلى وجهتها في الشرق الأوسط وأفريقيا لتجنب أزمة غذاء عالمية. وفي آذار2023 ، أعلنت تركيا والأمم المتحدة عن تمديد الاتفاقية الدولية لتصدير الحبوب الأوكرانية. وقد فسر بعض المراقبين هذا الموقف على أنه فرصة لتركيا لتنشيط سياستها الخارجية ، في مواجهة العديد من الأخطاء والفشل في السنوات الأخيرة في المنطقة. وبسبب العوامل المذكورة أعلاه ، تحسنت العلاقات بين أنقرة والغرب مؤخرًا ، مع تقدير الغربيين لمصلحة الموقف الوسيط بين موسكو وكييف الذي تبنته تركيا ، وبالرغم من موقعها الاستراتيجي ، مما يجعلها وصي مضائق البحر الأسود. وفي نظر الشركاء الغربيين ، تستعيد تركيا قيمة استراتيجية يبدو أنها فقدتها ،بصفتها قوة إقليمية وسيطة ، لأنها الدولة العضو الوحيدة في الناتو التي تتحاور مع الطرفين المتحاربين.
* محاضر في العلوم السياسية في جامعة بوردو