علي حسين
شعرت بالسعادة والفخر حين وجهت لي دعوة للمشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب للحديث عن رائدة الحداثة الشعرية نازك الملائكة.. كان الصديق قحطان الفرج الله صاحب المبادرة الذي سعى إلى فكرة رائعة ورائدة وذكرى خالدة لأديبة تزعمت حركة الشعر العربي في العصر الحديث.
ظهرت نازك في مرحلة التوق إلى الجديد والثورة على الأوضاع السائدة، كان هناك السياب والبياتي، وفي الأفق يصدح صوت الجواهري، وفي لبنان سعيد عقل وتوفيق الصائغ وأدونيس.. أرادت للشعر أن يبقى حياً وحيوياً وأن لا تغيب عنه قضية الإنسان.
لم يسهم أحد مثلما فعلت نازك الملائكة في فرض التجريب الشعري الذي عرف بالشعر الحر على خارطة الأدب العربي. فقد كانت أول من كتب ونظر له، فارتبط باسمها لأنها أبدعت ودافعت عنه ونقدته وصاغت مصطلحاته. كانت حجر الأساس في تشكيل ظاهرة أدبية. سيقول البعض إن نازك لم تظهر بغير سوابق وإرهاصات في التجديد الشعري العربي وجدت قبلها سواء في مصر أو لبنان أو العراق، لكن يبقى لها شرف الريادة ببلورتها لنظرية شعرية حديثة وأيضا ثورة اجتماعية لم يكن بإمكان امرأة غيرها أن تكتب في منتصف الأربعينيات قصيدة تندد فيها بازدواجية المعايير بالنسبة للمرأة في مجتماعاتنا، فكانت قصيدتها "غسلاً للعار" نص من نصوص المقاومة في سبيل تحرير المجتمع كاملاً:
ياجارات الحارة.. يافتيات القرية
الخبز سنعجنه بدموع مآقينا
سنقص جدائلنا وسنسلخ أيدينا
لتظل ثيابهم بيض اللون نقية
لا بسمة، لا فرحة، لا لفتة. فالمدينة
ترقبنا في قبضة والدنا وأخينا
وغداً من يدري أي قفار
ستوارينا غسلاً للعار
عاشت نازك الملائكة حياتها مثل دون كيشوت تحارب طواحين الجهل والموت، لكنها في النهاية مثل بطل سيرفانتس استسلمت بعد أن وجدت نفسها وحيدة، يحيط بها صمت دائم.. المرأة التي فتحت أبواب الحداثة الشعرية في "شظايا ورماد"، أمضت سنواتها الأخيرة منزوية، توغل في الصمت، وسيتآمر عليها العمر والمرض لتسقط في العشرين من حزيران عام 2007 بعيدة عن بغداد التي أحبتها وتمنت أن تستند في أيامها الأخيرة على أسوارها. يغادر الجسد الذي تقلب في دروب الثقافة والسياسة والغربة، غير أنه ظل مخلصاً للشعر، ومثلها مثل بطل سيرفانتس، كانت فضائلها تعادل شجاعتها .
لو كانت نازك الملائكة على قيد الحياة اليوم، لبكت من الفرح والزهو، وهي ترى القاهرة التي كان لها أثر كبير في مسيرتها وملاذاً في آخر أيامها، تعيد الوهج إلى سيرتها كواحدة من أيقونات النهضة العربية الحديثة.