TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: مساكين الله والنخل

قناطر: مساكين الله والنخل

نشر في: 10 يوليو, 2024: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

لعن الله الحضارة إذا كان من مظاهرها ما حدث لزراعة النخيل في العراق، أو في البصرة، وأبي الخصيب بخاصة! ياه، أين ذهبت قبائل وقوافل وأفواج الحارثين والزارعين والغارسين والحاصدين؟ مساكين الله والنخل، هؤلاء الذين كانوا يعرقلون سير المركبات في المطيحة وكوت باش كاتب والسراجي، الذين يأتون البصرة من كل فجٍّ عميق وغير عميق، من الاهواز والمحرزي والمحمرة ومن العمارة والناصرية والكوت والسماوة، فلا تستوعبهم البساتين. يخرج من أتت الشمس على فراشه متأخراً، فلا يجد منهم أحداً.. بلعتهم غابة النخل، وأخذتهم سفائن التمر الى المكابس.. أين هم الآن؟ لماذا توقفت الارض بأقدامهم، حتى لم نعد نرى منهم أحداً.
ولأنني ابن نخل، وصنيعة انهار وماء وسعف وظلال فقد شقَّ عليَّ ألا أغرس النخل كثيفاً في البراحة التي تفصل البيت الكبير عن بيت الخطار، وهكذا، فعلت. يدعوني صديقي الذي كان يسكن المدينة قبل أنْ يتخذ من بيته الحالي مقاماً أخيراً، فأرى حديقته واسعةً، معشبة بالثيل الاخضر، ومزدانة بانواع الاشجار والورود، ومسيجةً بالأضواء والمتسلقات لكنه ِاكتفى بنخلة او ثلاث فيها لا غير، لعله أراد الحديقة ملعباً للكرة الطائرة، والعشب منامة للأطفال، والفسحة الواسعة مأمناً للقمر والنجوم والطيور المغتربة، وكلها من أفعال الجمال، لكنني مازلت بعيداً عن فكرة الحديقة، ولم تجد لها مكاناً في رأسي، فهي عندي للنزهة، والتأمل، وقراءة الصحيفة، وتناول كوب القهوة بالحليب في الصباح، هي هكذا عند كثيرين، أمّا أنا فلا أقع أسير إغرائها، ولا أعرف غير الغرس والسهر والتعب والجني والتلذذ والتطعم بما غرست وسهرت وتعبت وجنيت.
حديقة المنزل عند الناس ترفٌ فكري، أمّا عند الفلاح فلا، ترفه الفكري بستان يتسع كل يوم، ولا حدود له، يريد أنْ لا يتوققف عند نقطة بعينها، وكلما ازدادت الارض سعةً زادها أزهاراً ونخلاً، وكلما حدثوه بحديث صنف من أصنافها سعى في طلبه. كنتُ قد شهدتُ مجالس أهلنا صبياً ويافعاً ورجلاً كاملاً، فلم أسمعهم يخوضون في حديث غير حديث النخل والغرس والحرث والكري والشموس المتأخرة والاقمار المكتملة، أكفهم خشنة، وأصابعهم طويلة، وأقدامهم بتراب كثير، وثيابهم برائحة دخان لا أطيب منهم، الخبزُ بالزبدة مبتلعاً بالشاي فطورهم في كل صباح، والرزِّ بالدهن الحرِّ وبالسمك المقلي مأكول وجبة الظهر، وليس العشاء بأقل من ذلك، لكنَّ التمر سيدٌ في اليوم كله، محفوظ في سبائك الخوص بعيداً عن أعين الغرباء.
بالامس نصبتُ سقالةً من حديد بطبقات ثلاث، حول نخلة البريم الوحيدة، التي ظلت تجاور البيت، طويلة هي، وقد تبلغ بجذعها السطح في بحر سنوات قليلة، ولأنني غير قادر على صعودها، ولا أجدُ بين أبنائي من يصعدها أيضاً، فقد اشتريت السقّالة، وأقمتها، طمعاً بالوصول الى رأسها، المنضود بثمانية عذوق، لا أشهى ولا أطيب منها. صنف البريم شيئٌ والبرحيٌّ شيئٌ آخر، قليلون هم الذين يفضلون الأخير على الأول، لهذا، كنت قد أخذتُ -غير نادمٍ -من مساحة الغرفة التي تحاددها، حين شرعت ببناء البيت.
في العام الماضي تركتُ آلة صعود النخل(الفروند) بعُطلها القديم، وبحبالها القنب تجفُّ وتتفسخ، فقد يئست أجدُ مَنْ يستعملها، إذْ لم يعد صاعودٌ واحدٌ في قريتنا التي كان كلُّ من فيها صاعودَ نخل. ماتَ الصَّعَدَةُ الأولون، وعجزَ من أتى بعدهم، وحين أتت الجرافات على غابة النخل تنكر أولادهم، لما كان عليه آباؤهم، فقد صاروا حكاماً ومقاولين وموظفين وأصحاب شركات لا تعني النخلة لهم شيئاً.. وهكذا، اختفت قوافل فقراء النخل، لم يعد منهم أحدٌ. ألا ليت السماء انطبقت على الارض، ولا أحياني الله ليوم لا أرى فيه قوافل أولئك، مساكين الله والنخل، التي كانت تقطع الطريق بين المطيحة وكوت باش كاتب والسراجي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram