د. فالح الحمراني
كتب فلاديمير نابوكوف رواية "اليأس" وهي الرواية السادسة التي يكتبها بالروسية، في برلين عام 1932. ونشرت على شكل حلقات في غضون عام 1934 في مجلة "سوفريميني زابيسكي" وهي مجلة اهتمت بنشر أدب المهاجرين الروس، وصدرت في باريس من 1920 إلى عام 1940. وفي عام 1936 قامت دار نشر بتروبوليس في برلين بنشرها ككتاب. وهي الرواية السادسة التي كتبها باللغة الروسية. ومنع نشرها في الاتحاد السوفياتي السابق، مثل جميع أعمال نابوكوف الأخرى، ولم تنشر في روسيا فقط في تسعينيات القرن الماضي.
وفي أواخر عام 1936، حين كان نابوكوف يقيم في برلين ترجم رواية اليأس لناشر في لندن. وفي عام 1937، نشرت دار جون لونج للنشر في لندن رواية اليأس في طبعة مقبولة.
تُعد رواية اليأس حدا فاصلا وملموسا في طريق نابوكوف الإبداعي. وتتميز عن الأعمال التي كتبها في الحقبة الروسية إنها جاءت على نمط الرواية البوليسية، بيد إنها تختلف عن أسلوب الرواية البوليسية التقليدية في أن الراوي هو الذي حضر للجريمة وتنفيذها، وهو الذي يتولى عرض خلفياتها. وأجمع كبار نقاد أدب المهجر الروسي على أن اليأس هي ذروة إنجازات الكاتب حتى ذلك الحين. وحتى الخصوم الأبديين مثل الناقدين الروسيين المعروفين خوداسيفيتش وآدموفيتش اتفقا على تقويم عال لهذا العمل بناء على تحليلهما للرواية. وأعطى الناقدان توصيفا عميقا لإبداع نابوكوف.
يكتشف جيرمان بطل الرواية، وهو رجل أعمال متوسط الحال من مدينة برلين، ويتميز بكونه حساس جدا، ويطمح سر ليكون كاتبا ممجدا، بصورة مفاجئة وجود شبه تام بينه وبين المتشرد فيليكس الذي يلتقي به بالصدفة في ضواحي مدينة براغ، ولم تكشف لنا الرواية حتى النهاية هل كان هناك تشابه عجيب، كما يؤكد لنا جيرمان، أم إن ذلك كان ثمرة خياله. وعلي خلفية وقوف مشروعة التجاري على حافة الإفلاس، تطرأ في ذهنه فكرة استعمال هذا الشبه لإنقاذ وضعه المالي بقتل الشبيه على أمل أن تعتقد الشرطة بأن المقتول هو جيرمان الذي يهرب بعيدا، فتحصل زوجته من شركة التأمين على لتلحق به في مخبئه ويعيشان بقية حياتهما كأثرياء بهدوء وسلام ومتعة… لكن الجريمة التي كان لها صدى واسع لم تنطل على التحقيقات فتكشف عن الفاعل ودوافعه.
وباستخدام الحبكة للرواية البوليسية وموضوعة "الشبيه"، تطرق نابوكوف في روايته إلى الموضوعات الأساسية للأدب الكلاسيكي الروسي: الجريمة والعقاب، ومن المتهم؟ والعبقرية والشر، والمثالية والدونية، وقوة الأنانية الخانقة، مما يدفع الشخص أولا إلى إنكار القيمة الوجودية ل "الآخرين"، ثم الخسارة الحتمية ل "أنا" الفرد والتفكك الكامل للشخصية. لذلك، ليس من قبيل الصدفة أن تحتل "اليأس" مكانة خاصة في التطور الإبداعي لنابوكوف. وجدت الموضوعات والشخصيات التي تناولها في الأعمال السابقة تطورها، في رواية "اليأس" واكتسبت صوتا رمزيا، وساهمت في ترسيخ سمعته ككاتب.
ويقول نابوكوف إن رواية "اليأس" "مثل كل رواياتي الأخرى، لا تطمح لتقديم نقد اجتماعي، ولا موعظة جاهزة، ولا تمجد قيم الإنسان الأخلاقية ولا تظهر للبشرية طريق الخلاص. كما تتضمن عددا أقل بكثير من" الأفكار "التي تروج لها لروايات المبتذلة". اللافت إن نابوكوف بذل طوال مسيرته الإبداعية، الكثير من الجهد والطاقة ليخلق لنفسه صورة "الفنان الخالص"، وينتهج نزعة " الفن للفن" الجمالية كما لدى أوسكار وايلد، وبشر بأن هدف الأدب هو الأسلوب، جمالية اللغة واستعمالها الفردي، واكتفاء الإبداع الأدب بذاته وليس له رسالة ايديلوجية اجتماعية أو دينية أو فلسفية يروج لها، ودعم تجريد الفن من بعد المشاغل الإنسانية المادية، وبعيدا عن "أفراح البشر ومآسيهم". "الواقع ليس موضوع الفن الحقيقي ولا هدفه، الذي يخلق واقعه الخاص، والذي لا علاقة له بالواقع العادي الذي يمكن للعين الجماعية الوصول إليه". ويرى نابوكوف أن الصدمة الجمالية التي يحدثها الأدب لدى المتلقي هي الهدف السامي لأي عمل فني رفيع. "الواقع ليس موضوع ولا هدف الفن الحقيقي الذي يخلق واقعه الخاص الذي لا يشترك في أي شيء مع الواقع المباشر الذي يمكن الوصول إليه بالعين الجماعية" هذا التوضيح الجذاب، الذي جاء على لسان بطل رواية "النار الشاحبة"، يتناغم مع العديد من التصريحات البرنامجية للكاتب.
كذلك يحذر نابوكوف القارئ المولع بالتفسير النفسي أن يرى في الرواية أكثر مما هي عليه، ويقول: "أود فقط أن أضيف، أن المتخصصين في مجال" المدارس "الأدبية سيتصرفون بحكمة إذا لم يرصدوا في الرواية عن طريق الخطأ" تأثيرات الانطباعيين الألمان ": فأنا لا أعرف اللغة الألمانية، ولم أقرأ أبدا الانطباعيين وليس لدي أي فكرة عنهم. من ناحية أخرى، وبما إني أعرف الفرنسية، أتساءل عما إذا كان هناك من سيرى في بطل الرواية جيرمان هو" أبو الوجودية ". يلمح نابوكوف هنا إلى ملاحقة المراجعين والنقاد لأعماله، والنهوض بالبحث مع كل رواية ينشرها عن خلفياتها ورصد ظلال، وحتى اقتباس وانتحال أفكار وتقنيات أعمال مشهورين أو محدودي الشهرة. فقد زعم انتحاله أعمال كافكا في روايته" دعوة للشنق "، كما لاحظوا في أعماله الأخرى بصمات تولستوي وبوشكين وجيمس جويس وغوغول… إلخ. ويجمع دارسوا نابوكوف على وجود ظلال فيودور دوستويفسكي في روايته التي بين أيدينا، رغم أن نابوكوف كإنسان لا يطيق دوستويفسكي، ويسخر من أعماله. ويلاحظ ألكسندر مولياريارتشيك في كتابه" أعمال نابوكوف النثرية بالروسية "(1997)" قلبت المكونات الميتافيزيقية الأساسية للرواية، على طريقة دوستويفسكي، وتذكرنا به، أيضا النبرة العصبية الحادة… إن نابوكوف الفنان كان في روايته "اليأس" قريبا جدا من دوستويفسكي الذي سخر منه… إن الراوي يعيد ذاكرة القارئ إلى شخصيات روايات الأبلة والشيطان "ويضيف نقاد آخرون لهم شخصيات روايات المراهق و" مذكرات من الأعماق ".
ويعترف نابوكوف أن روايته تناولت بأقل من الروايات الأخرى موضوعة عقد المهاجرين الروس الموالين لحركة البيض، ولم يمنع هذا الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر في نقده للرواية من القول "إن كاتبها وبطلها الرئيس ضحية للحروب والهجرة". لهذا السبب، لا بد أنها ستثير استغرابا وانفعال أقل بين القراء الذين نشئوا على الدعاية اليسارية في الثلاثينيات.
ويقول نابوكوف في مقدمة الترجمة الإنجليزية للرواية: "ليس بوسعي التنبؤ ومنع محاولات العثور بين سطور رواية" اليأس "شيئا من الخطاب المسموم الذي غرزته بنبرة الراوي في روايات سابقة. يتشابه بطل رواية" اليأس "جيرمان وبطل رواية" لوليتا "هامبرتو فقط من زاوية إنهما تنانين متشابهة رسمهما نفس الفنان في أوقات مختلفة من الحياة. كلاهما وغد ومريض عقليا، ومع ذلك يوجد ممر أخضر في الجنة حيث يسمح لهامبرتو بالتمشي عند غروب الشمس مرة واحدة في السنة، لكن لن يفرج عن جيرمان من الجحيم بأي كفالة".
ويضيف: يقع "المسكن البعيد" الذي فر إليه المجنون جيرمان بطل "اليأس" في نهاية المطاف في روسيين في فرنسا، حيث كنت قد بدأت قبل ثلاث سنوات في تأليف روايتي في لعبة الشطرنج، "دفاع لوجين". لنترك جيرمان هناك في ذروة الانهيار الكامل المستحيل والنهائي. لا أتذكر ما حدث له بعد ذلك، لأن خمسة عشر كتابا آخر وعدة سنوات تفصلني عن ذلك الوقت ".