علي حسين
بدأت مثل كثيرين غيري، قراءة روجيه غارودي في نهاية السبعينيات، ليس فقط كتبه في شرح الماركسية ونقده العنيف لبعض حراسها المتجهمين، وإنما دراساته في مجال الأدب، وكان يسعدني في ذلك الوقت أن أجد كتاباً جديداً له.. وفي مرات عديدة كنت أعيد قراءة روايته الوحيدة "مَن أكون في اعتقادكم". غارودي المتعدد الثقافات كان بالنسبة لي مثل السحرة الذين قرأت عنهم في ألف ليلة وليلة، مرة أراه كاتباً ساخراً، وفجأة يتحول إلى فيلسوف، لا يقبل أفكار المعلمين الكبار، بل يحاول نقضها.
عندما توفي قبل اثنى عشر عاماً في ريف باريس عن 98 عاماً، كان قد عاش قرناً من التحولات السياسية والفكرية، باعتباره من الأساتذة المرموقين للفلسفة في العالم، وظل يقول دائماً: إن الأثر الفلسفي سيظل مرجعية فكرية، فيما تتحول الأعمال الأدبية إلى مجرد قصص للتسلية.. اليوم لا أحد يعود إلى كلاسيكيات غارودي الفلسفية، بينما روايته الوحيدة تعود إلى الواجهة.. ففي خبر بثته وكالات الأنباء، أكدت دار غاليمار الفرنسية أن رواية الفيلسوف الوحيدة حققت مبيعات جعلتها في صدارة الكتب الأكثر مبيعاً لهذا العام، لماذا..؟ لا يُجيبنا الناشر.. لكننا حتماً نتذكر نبوءة سارتر عندما كتب يوماً "إن كلمات الفيلسوف يزول مفعولها عندما لا يعود لها غرض، في حين أن كلمات الأديب أشياء طبيعية تنمو كما تنمو الأشجار والعشب".
أتذكر أنني أعدت قراءة رواية غارودي أكثر من مرة.. أحياناً اراجع فصولاً فيها وأحايين أخرى أقتبس منها أشياءً وأشياء، وقد وقعت في سحرها وما أزال أعتبرها واحدة من كتبي المفضلة.. وفي كل مرة أجد نفسي إزاء حكاية عن جيل يريد أن يجد له مكاناً تحت شمس البلاد.. في تقديمه للرواية يقول غارودي: "إن بطلي الرئيسي ينتمي إلى جيل يبهرني.. الجيل الذي يعاني أحلام جيفارا، وقلق الحكام المتسلطين".
يعيش بطل غارودي مع رفاقه لحظات مطاردة شرسة من قبل أفراد في الشرطة، الذين يريدون منهم أن يتخلوا عن أفكارهم، ويقول لرفاقه مشجعاً: " إن البشر لا يموتون حقاً إلا إذا فقدوا مبرراتهم في الحياة، وهذا وحده ما يجعلني أعيش بعد".
في واحدة من أجمل حواراته يحاول غارودي من خلال أبطاله ان يعلمنا معنى أن يتربى الظلم والطغيان والخوف في أحضاننا "في هذا العصر أرى أن الظلم قد توزع على الجميع.. ولا دواء للخوف إلا بإعلاء شأن الحق ومحاربة الجور الأبدي، وأن نخلق السعادة ".
عندما يخرح سياسي عراقي يخطب أقول مع نفسي، ربما أفاق، أو استُفيق، وسيرى وجوه العراقيين وزمنهم الضائع، ويطلب منهم العمل معاً لبناء بلد المواطنة، لا بلد الطائفة والعشيرة والأهل، ولكنه في كل مرة يصر على أن يذكرنا بخطاب قائد الشرطة في رواية غارودي " انني أتحسس مقعدي كل صباح".