د. نادية هناوي
للذكاء الاصطناعي علاقة وطيدة بالتطورات التي حصلت في مجال السرد سواء على مستوى النظرية أو الممارسة. وكثيرة هي النتائج المتحققة من جراء تلك العلاقة، منها أن السرد تجاوز مرحلته الكلاسيكية ودخل في مرحلة جديدة ما بعدية، فيها للذكاء الاصطناعي مكانة مركزية تلقي بظلالها على مكانة الأطراف الأخرى التي هي نتاج الذكاء البشري. وإذا كانت هذه المركزية تجعل الرقمية سمة أساسية بوسائطها المتعددة والتشعبية، فإن ذلك لا يعني أن الأطراف غير فاعلة، بل العكس هي فاعلة إلى درجة أنّ الرقمية وحدها لا يمكن لها أن تؤكد إبداعيتها ما لم تكن مركزيتها مرتبطة بالأطراف. وهذا ما يجعل الفاعلية السردية غير متكئة كليا على الذكاء الاصطناعي، بل ثمة حصة مهمة في الإبداع الأدبي للذكاء البشري.
وتتأتى مركزية الذكاء الاصطناعي التوليدي في مجال الأدب عامة والسرد خاصة من تعدد الوسائط التي يمكن من خلالها الYفادة من قدرات هذا الذكاء وتطبيقاته لاسيما روبوت المحادثة chatgpt 3, 4o. ولأهمية هذه الوسائط وضع منظرو السرد ما بعد الكلاسيكي علوما مستحدثة تتخصص بمجالات لها صلة بالذكاء الاصطناعي، منها علم السرد الرقمي وعلم السرد ما بعد الرقمي وعلم السرد عبر الوسائطي. ولكل علم جهازه المفاهيمي الخاص وقد تتداخل هذه العلوم في ما بينها تبعا لطبيعة المواد السردية ونوعية الوسائط المستعملة فيها وقدرات المتلقي في التفاعل معها.
ولا خلاف في أن الإنسان منذ القدم احتاج إلى سرد القصص كأداة من أدوات التواصل ونقل الخبرات والمعارف. وما من تطور تاريخي عرفته الممارسة السردية إلا وكان انعكاسا للتطورات الحياتية على مستوى أساليب الإنتاج وأنماط العمل وصيغ التفكير. ومن الطبيعي بعد ذلك أن نجد للتقدم التكنولوجي المذهل في حياتنا الراهنة تأثيرا مباشرا وعميقا في أن تكون للرقمية أهمية في كتابة السرد وأشكال ممارسته وتنوع وسائطه فلم يعد التواصل الوجداني مقتصرا على الأشكال الشفوية والكتابية، بل اندمجت وتطورت وابتكرت وسائط رقمية، صارت أكثر تكيفا مع الحياة وأقدر على إكساب المتلقين الكفاءة والمعرفة. وهذا بالطبع يضفي على الممارسة السردية ديمومة وتطورية، تجعلها موئلا مهما ومستمرا للبحث والاستقراء. وعلى الرغم من أن الوسائط المتعددة تدخل عنصرا في بناء السرد الرقمي، فإن علم السرد ما بعد الرقمي لا يدرسها بشكل مباشر، وإنما هو يتجاور أو يتعالق في دراستها مع علم السرد عبر الوسائطي فيتداخل التعدد في الوسائط مع السياق التواصلي وينتج منظوره الخاص به. ولقد أخذت العلوم السردية المستحدثة تحقق في الآونة الأخيرة تقدما بحثيا ملحوظا، أسفر عن تدشين نظريات واجتراح مفاهيم وولوج مجالات فرعية منها مثلا القص الرقمي والقص ما بعد الرقمي. وهما موضوع الدراسة الموسومة(القص ما بعد الرقمي) واشترك في انجازها ثلاثة باحثين. وابتدأوا بتحديد بداية اقتران مفهوم الرقمية بالقص بالعام 2000 وما أن مضى عقد من الزمان تقريبا حتى ظهر مفهوم القص ما بعد الرقمي، مؤكدين أن من الصعب تحديد ماهية القص ما بعد الرقمي نظرا لسيولة تعريفه فهو من ناحية يعني المرحلة الزمنية التي تلت ظهور التكنولوجيا الرقمية وما رافقها من تحول كبير في فهم أثر التكنولوجيا في الأدب. وهو من ناحية أخرى يعني فوضوية رقمية وتناظرية، تكنولوجية وغير تكنولوجية، بيولوجية ومعلوماتية، لا يمكن التنبؤ بمعطياتها، فضلا عما فيها من تداخل في المجالات والمعلومات وتنوع في التحديات التي هي بمثابة انقطاع عن النظرية السردية واستمرار فيها أيضا.
ومن المسائل التي تجعل القص ما بعد الرقمي غير قابل للتحديد والتعريف، تداخله أولا بالسرد متعدد الوسائط وبالمجال التعليمي ثانيا. وفي ذلك الدليل على ما للرقمية في حياتنا الراهنة والمستقبلية من أولوية وفاعلية.
ولأجل بلورة منظور تربوي نقدي بإزاء القص التعليمي ما بعد الرقمي، ينبغي العمل على مجموعة مسائل حددتها الدراسة أعلاه بما يأتي: 1/تفكيك ثنائية الرقمي وما بعد الرقمي، 2/ تأمل السياق ما بعد الرقمي والتحديات المرتبطة بالتقنيات الجديدة المستخدمة في التعليم وكيفية تحويل المناهج التعليمية إلى بيانات باستخدام التكنولوجيا الرقمية 3/ الإدارة المستدامة للموارد والعمالة الموظفة في تطوير تلك التقانات، 4/ الاهتمام بالمجالين الايكو- بيداغوجي والبيو سيموطيقي في سبيل دمج البيئة الطبيعية بالوسيط التكنولوجي.
ومما تؤكده الدراسة أن عملية الانتقال بالمجال التعليمي من النموذج الرقمي إلى ما بعده أمر يحتاج محوا للأمية الرقمية وكثيرا من التحليل للمتغيرات التي تنطوي عليها عملية الانتقال من السياق الرقمي إلى سياق ما بعد رقمي معقد. وهو أمر بات ملحا بالنسبة إلى (المجتمع النيوليبرالي وما يقتضيه من نظام تعليمي متطور، قادر بشكل كبير على إكساب الطلاب مهارات رقمية وإعلامية متعددة الوسائط تجعلهم مؤهلين لأن يمارسوا المواطنة الكاملة في عالم يزداد رقمنة). ولا بد من البحث عن نقاط الاتصال والاختلاف بين الرؤية المتعددة للوسائط والرؤية ما بعد الرقمية للمناهج التعليمية من خلال اتخاذ القص وسيلة فيها يجتمع الرقمي بما بعد الرقمي. وتعود بدايات هذا النوع من البحث إلى تسعينيات القرن الماضي وتحديدا عام 1993 حين ظهرت مشاريع متنوعة في القص الرقمي التعليمي بهدف استكشاف ممكناته ودوره في التغيير المجتمعي. وعرَّف جوردن هذا القص بأنه(إنتاج قص رقمي قصير ضمن بيئة تعليمية محددة تمزج فيه الصور الرقمية بالنصوص وتختلط الموسيقى بصوت السارد) وعرفه لامبرت بأنه إنتاج فيلمي قصير مُروى سرديا بصوت المتعلم، فتتولَّد لديه رغبة في التعبير مع ضرورة أن يكون الفيلم موجها إعلاميا من قبل معلم أو يوتيوبر أو باحث مدرب على استعمال الوسائط الالكترونية المتعددة في إنشاء فيديوهات لأغراض تعليمية مجتمعية. والغاية هي محو الأمية الرقمية والتعدد في السياقات التعليمية وبالشكل الذي يطوِّر قابليات الطلاب البصرية والفكرية، ويجعل إنسان القرن الحادي والعشرين مزودا بالمهارات التكنولوجية والمعلوماتية العملية.
ولا خلاف في أن اتخاذ القص وسيلة تعليمية أمر ليس بالجديد بيد أن توظيف الوسائط ما بعد الرقمية في خدمته يجعله إستراتيجية تعليمية لا غنى عنها، بسبب ما لها من منصات متعددة، وغزارة في المحتوى، ومرونة عملية وتعددية في اللغات والأدوات. وهذا ما يحتاج تناصا مع مجالات تكنولوجية وفنية أخرى كثيرة. ويحدد الباحثون إطارا مبدئيا للقص ما بعد الرقمي يتألف من خمسة عناصر أساسية هي:
1/ دمج المجال الرقمي مثل وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية بغير الرقمي كالطباعة والشفاهية فيكون القص متكاملا في أوضاعه والوسائط المستعملة فيه.
2/ الاتساع المرن والتفاعل السلس بين المجالين الرقمي وما بعد الرقمي، بما يجعل القص التعليمي مؤثرا وذا سياقات مختلفة.
3/ التقاطع والعبور ما بين المجالين الرقمي وما بعد الرقمي يجذب المتعلم ويوجهه نحو التلقي بايجابية.
4/ هيمنة ما بعد الرقمية تصنع وضعا تعليميا، يهيئ المجال لممارسة تجربة القص.
5/ تبعية غير الرقمي للرقمية ضمن إطار ما بعد رقمي تمثله تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل محرك البحث Bing وروبوت المحادثة chatgpt.
وعادة ما يوظف القص التعليمي ما بعد الرقمي في مجال الفنون والعلوم الإنسانية وبخاصة الكتابة الأدبية. ويكون للسرد عبر الوسائطي دور مهم في تعزيز عملية تدريس هذا النوع من القص التعليمي خاصة وعمليات التعليم والاكتساب المعرفي الأخرى عامة. ويشدد الباحثون على كفاءة المناهج التعليمية العابرة للوسائط في تحسين الكفاءات وتطوير المهارات بشكل أساس ودينامي.
إن تركيز الرؤية ما بعد الرقمية على تهجين القص التعليمي بالقص الرقمي من جانب وتوظيف الوسائط الاعتيادية والعابرة المتعددة فيه من جانب آخر، إنما يأتي من حقيقة ما تصنعه هذه الرؤية من بيئة إعلامية دراسية مناسبة تساعد المتعلم على ممارسة تمرينات ضرورية في التفكير والنقد. وبالشكل الذي يمكِّنه فيما بعد من أقلمة ذلك كله مع سياق احتياجاته الخاصة وطبيعة شخصيته.
وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسة وجدية ما تطرحه من رؤى، فإنها تبحث في الإطار النظري حسب، ومن ثم لا تتطرق إلى إجرائيات القص ما بعد الرقمي من قبيل تجريب واسطة الكترونية معينة ومقارنتها من ناحية الفاعلية والإدامة بوسائط أخرى كما أن غالبية البناء النظري للمحتوى القصصي انصب على ما بعد الرقمية من دون تحديد دور تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي في الارتقاء بالقص التعليمي ليكون أداة مهمة وفاعلة في يد المعلمين والمدربين في وقت تشهد فيه تداولية هذه التطبيقات سعة انتشار على المستوى العالمي، نظرا ليسر العمل عليها ومناسبتها لمختلف الفئات والبيئات. وثمة تطورات مقترحة كثيرة تفيد من إمكانيات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في تجاوز التحديات المتعلقة بالمجالين التعليميين الرقمي وما بعد الرقمي واكتساب مهارات وأدوات جديدة من قبيل تحويل المحتوى إلى صيغ أُخر.
أقلمة القص التعليميّ ومحو الأميّة الرقميّة
نشر في: 6 أكتوبر, 2024: 12:03 ص