ستار كاووش
إنتصفَ النهار عند وصولي شارع برنس يوجين في مدينة فيينا، قادماً من الحي الذي خلف محطة القطار، فأكملتُ طريقي في هذا الشارع الطويل محاذياً سياجاً مبنياً بحجارة حمراء، تطل من خلفه أغصان الأشجار التي تخللتها بعض الزهور، وكأني أمام واحدة من لوحات واترهاوس. أكملتُ الطريق متطلعاً لطاولات المقاهي التي إنتصبت على الطريق، فيما رفرفت بعض الأعلام المُثبَّتة على صواري عالية مُعلنة عن معروضات متحف بلفدير الذي إحتَلَّ مساحة مترامية على يمين الشارع. ما أن إجتزتُ المتحف بقليل حتى إلتَمَعَ في فضاء ساحة شوارزنبرخ قرص ذهبي كأنه شمس أنبثقت من بين الغيوم، وما زاد المشهد غموضاً هو رذاذ النافورة الكبيرة الذي كان يتطاير بفعل الهواء، والذي حول المشهد الى لوحة تنقيطية من لوحات القرن التاسع عشر. عطفتُ يميناً نحو جهة اللمعان، فإذا بقطعة ذهبية اللون ودائرية الشكل تبرق عالياً، إقتربتُ أكثر فإنبثقَ في الفضاء تمثال برونزي لجندي يقف بثبات رافعاً علماً ويضع بجانبه قرصاً ذهبياً لامعاً. دنوتُ من التمثال، فبدا شاهقاً أكثر مما توقعته، كأنه يخترق السماء. تفحصتُ بعض تفاصيل العمل والمكان وقررتُ أن أقضي بقية ساعات اليوم بين مفردات هذا النصب التذكاري الذي شغل مساحة واسعة جداً، ويُشير الى الأيام الأخيرة لإنتهاء الحرب العالمية الثانية، ويسرد حكاية الجنود الروس الذين سقطوا من أجل تحرير النمسا من النازية، حيث لاقى ثمانية عشر ألف جندي روسي حتفهم أثناء هذا التحرير. وكرَدٍّ للجميل تم الإحتفاء بذكراهم هنا من خلال هذا العمل الفني الذي يطلق عليه أهالي فيينا الآن تسمية (النصب الروسي). تجولتُ بين أرجاء النصب متخللاً رذاذ النافورة، ومتأملاً التفاصيل المذهلة التي توزعت بين هذه المساحة الشاسعة، وفكَّرتُ بأحداث التاريخ المهمة، والأيام المشرقة التي يجب أن نضعها في مكانها المناسب، مثل اليوم الذي يُشير له هذا النصب، والذي ظلَّ مضيئاً في ذاكرة أهالي فيينا، ليس فقط لأنه جمع الحياة والموت في مكان واحد، بل لأنه إستطاع أن يُرينا كيف يمكن للإنسان أن يصنع من الموت حياة.
في مقدمة النصب يقف تمثال الجندي الأحمر بإرتفاعه الذي يصل الى اثني عشر متراً، إضافة الى القاعدة التي شغلت إرتفاع عشرين متراً. يمسك الجندي بإحدى يديه علماً كبيراً بكل ثباث، فيما يقبض بيده الأخرى على قرص ذهبي كبير ولامع، نُقِشَتْ عليه شمساً وشعار الاتحاد السوفيتي. يستند هذا التمثال على مكعب من البرونز والحجر الأحمر، حيث برزت أربعة رماح مغطاة ببعض الستائر تتوسطها أكاليل من الزهور والأعلام.
درتُ حول التمثال الشاهق، متأملاً الإتقان الماهر الذي منحَ البرونز تأثيراً وسطوة لا يمكن إخفائهما، وفكرت بأولئك الجنود الذين غابوا وتركوا خلفهم كل هذا الحضور. ثم سحبتُ خطواتي ببطء خلف التمثال، حيث إنتظمَ صف حجري من الأعمدة، بهيئة نصف دائرة، وبإرتفاع نحو ثمانية أمتار، وقد كُتِبَ على حافة السقف الذي يُغطي الأعمدة، باللغة الروسية وبخطوط ذهبية كبيرة (المجد الأبدي لأبطال الجيش الأحمر الذين سقطوا دفاعاً عن أوروبا ضد النازية)، فيما برز فوق السطح من الجانبين، مجموعة من الجنود الذين يُطاولون الأفق ويسحبون خلفهم بعض المعدات، ماضين لتحقيق هدفهم.
هنا ينسجم النحت والتصميم والعمارة والطبيعة في مكان واحد، وما أضافَ للمكان جمالاً، هي النافورة الضخمة التي ربضتْ أمام النصب بحوضها الدائري الواسع ورذاذ الماء المتطاير مع كل نفحة هواء، وقد تم إضافة هذه النافورة مع نفاثاتها الضخمة للنصب سنة ١٩٧٣، لتمنح المكان لمسة إضافية من الحياة، وتُتيح مكاناً للجلوس.
إخترتُ مكاناً بينَ الأعمدة الحجريّة وتابعت المكان بكل تفاصيله وملامح إنجازه وحضوره الآسر في هذه الساحة، وتأكدت بأن أهمية الفن تُكمن في روحه وهدفه سواء كان روسياً أو نمساوياً أو عراقياً أو من أي بلد آخر. الفن الحقيقي يعني أن يشدك شيء ما ويفتح معك حواراً ويجعلك تنسجم معه، وهذا ما فعله معي هذا النصب العظيم الذي أنجزه النحات الروسي أنتيساريان ومواطنه المعماري ياكوفيليف سنة ١٩٤٥ ليكون شاهداً على الحياة التي تنبع من الموت. والذي وصفته جريدة أربايتر تسايتونخ النمساوية وقتها بأنه رمز للإيمان والأمتنان. وفي البداية تَمَّ دُفِنَ الجنود الروس الذين سقطوا دفاعاً عن المدينة في ذات المكان، قبلَ أن يتم نقل رفاتهم فيما بعد الى مقبرة خاصة.
بدأت الشمس بالمغيب، وأنا مازلتُ أتطلع الى تفاصيل النصب حتى بعد أن أخذتْ العتمة تدب شيئاً فشيئاً بين التفاصيل. نظرة أخيرة ألقيتها على يد الجندي الممسكة بقرص (الشمس)، ثم أكملتُ طريقي بإتجاه كنيسة كارل ببرجها ذو اللون الأخضر المعتق، والذي مازال يمكن رؤيته من بعيد. وخلف الكنيسة برزت أمامي مقهى قديمة مكتوب على يافطتها بحروف بيض (مقهى موزارت) فعجبني الأسم وإخترتُ طاولة فارغة، وطلبتُ فنجان قهوة مع قطعة كعك مغطاة بشوكولاته داكنة، وإنغمرتُ في تأمل الصور التي ألتقطتها لتفاصيل النصب.