أحمد حسن
لفهم حالة القلق التي تخيم على النخبة السياسية في العراق مع كل تغيير داخلي أو إقليمي، لا بد من تحليل عميق يرتكز على أسس واضحة ومنطقية. فالشرعية السياسية، التي تعد الركيزة الأساسية لاستقرار أي نظام، تُستمد من رضا المواطنين وثقتهم. وعندما يظهر الخوف من التغيير، فإنه غالبًا ما يعكس أزمة في شرعية النظام أو إدراكًا ضمنيًا من النخب بضعف النظام أمام تحديات الواقع.
النظام السياسي الذي نشأ بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 تأسس على المحاصصة الطائفية والعرقية كوسيلة لإدارة الدولة. في البداية، بدا هذا النموذج وكأنه محاولة لتحقيق تمثيل عادل لجميع مكونات المجتمع العراقي. إلا أن المحاصصة سرعان ما تحولت إلى مشروع قائم على المحسوبيات، أو ما يمكن تسميته بـ"الزبانية"، لتصبح أداة للصراع على النفوذ والمكاسب. هذا التحول أدى إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية بدلًا من معالجتها. والسؤال الجوهري هنا: كيف يمكن لنظام يعتمد على تقسيم المجتمع أن يحقق شرعية وطنية؟
احتجاجات تشرين 2019 جاءت كإجابة صريحة على هذا السؤال، حيث عبر العراقيون من خلالها عن رفضهم الجذري للنظام، ليس فقط على مستوى الشخصيات الحاكمة، بل على مستوى الأسس التي يقوم عليها. هذا الرفض الشعبي أبرز هشاشة النظام القائم، وأوضح عدم قدرته على استيعاب التغيرات أو الاستجابة لمطالب الإصلاح. لهذا السبب، تشعر النخبة الحاكمة في العراق بحالة من التوجس أمام أي تغيير إقليمي أو داخلي، مثل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، الذي يعد حليفًا ضمنيًا لهم.
سقوط الأسد، على سبيل المثال، أثار مخاوف عميقة داخل العراق، حيث بدأت التساؤلات تُطرح حول مصير النخب السياسية المرتبطة بالإطار التنسيقي وغيره من القوى التقليدية. بدلًا من مواجهة هذه التساؤلات بمراجعة الذات أو محاولة الإصلاح، لجأت النخب إلى تخوين منتقديها وشيطنتهم، في إشارة واضحة إلى إدراكها هشاشة شرعيتها. وكما قال المفكر أنطونيو غرامشي: "الأزمة تحدث عندما يموت القديم، ولكن الجديد لم يولد بعد". هذه العبارة تجسد تمامًا حالة النظام العراقي، الذي يعيش في فراغ بين نظام قديم فقد شرعيته ورؤية جديدة لم تتشكل بعد.
النخب السياسية العراقية تنظر إلى أي مطالبة بالتغيير كتهديد وجودي لها، ولهذا تلجأ إلى أساليب متعددة للحفاظ على هيمنتها. أحد أبرز هذه الأساليب هو توظيف الجماعات العشائرية. تاريخيًا، كانت العشائر تمثل الحاضنة الاجتماعية التي تعكس قيم التضامن والتكافل في المجتمع العراقي. لكن في ظل النظام الحالي، تحولت بعض الجماعات العشائرية إلى أدوات تُستخدم لحماية السلطة وتثبيت أركانها. أصبح رجال السلطة يوظفون هذه الجماعات في تهديد المعارضين من خلال "الدكة العشائرية" أو الملاحقات الاجتماعية، ما يعيق أي محاولة للتعبير الحر ويقوض العمل على الإصلاح السياسي والاجتماعي. بهذا، تحولت العشائر من رمز للتضامن الاجتماعي إلى أداة قمعية تعزز النظام القائم.
على الصعيد الديني، استُخدمت الطقوس الشيعية كوسيلة لتكريس شرعية النظام الحاكم. هذه الطقوس، التي كانت تاريخيًا تعبيرًا عن مظلومية الشعب ورفض الظلم، تحولت تدريجيًا إلى أداة تُستخدم لتبرير فساد السلطة وخروقاتها. أصبح النظام يضفي نوعًا من القداسة على نفسه من خلال استغلال الرموز الدينية والمناسبات الطقسية، مما أدى إلى تحويل الدين من أداة احتجاج إلى أداة سلطوية. هذا التحول يعكس قدرة النظام على تكييف الأدوات الرمزية، حتى تلك التي كانت موجهة ضده، لتصبح وسيلة لضمان بقائه واستمراره.
إن قراءة الوضع السياسي في العراق من هذا المنظور تُظهر بوضوح أن النخب الحاكمة ليست فقط عاجزة عن بناء نظام سياسي مستقر وقائم على أسس الشرعية الوطنية، بل تعتمد على منظومة من الأدوات الاجتماعية والدينية لقمع المعارضة وترسيخ سلطتها. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر للنظام هو الاستجابة للوعي الشعبي المتزايد، الذي قد لا يكون من السهل قمعه إلى الأبد.
قلق السلطة الحاكمة في العراق من التحولات الجارية في سوريا يكشف هشاشة النظام السياسي، وخوفه العميق من انعكاسات هذه التغيرات على الداخل العراقي. إن التطورات الإقليمية، خاصة في سوريا، قد تعيد رسم خارطة التوازنات السياسية في المنطقة، مما يزيد من تعقيد المشهد العراقي المأزوم. وهنا تبرز مقولة ميشيل فوكو: "السلطة تُمارَس من خلال الخوف أكثر من العنف، حيث يصبح التحكم في النفوس أهم من السيطرة على الأجساد". هذا النهج يبدو جليًا في استراتيجية النخب الحاكمة، التي تركّز على إخضاع وعي الشعب، بدلاً من التصدي لأزماته المتفاقمة.
الشعب العراقي، الذي أنهكته الحروب والصراعات، لم يعد يرى في النظام القائم سوى واجهة لإعادة إنتاج الفشل. الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة، والانهيار المتواصل في الخدمات الأساسية، أضعفا ثقة المواطنين في أي وعود إصلاحية تقدمها السلطة. في هذا السياق، يتردد سؤال جوهري: كيف يمكن للنظام السياسي في العراق أن يتعامل مع تحديات إقليمية كبرى دون أن يكون مرتهنًا للإملاءات الخارجية؟ وهنا نستحضر مقولة والتر بنيامين: "الأزمة ليست فقط اختبارًا للنظام، بل فرصة للتغيير الجذري". على هذا الأساس، قد تكون التغيرات في سوريا نافذة للعراق لإعادة صياغة أولوياته، والانخراط في مسار إصلاحي يعيد بناء العقد الاجتماعي بين النظام وشعبه.
لكن الواقع يؤكد أن النخب الحاكمة في العراق ما زالت تراوغ الإصلاح الحقيقي. بدلاً من مواجهة التحديات بروح المسؤولية، تلجأ إلى أساليب التخوين والإقصاء، مما يعمّق الفجوة بينها وبين المجتمع. هذا النهج لا يقتصر على العراق وحده؛ فقد شهد التاريخ أن الأنظمة التي تتجاهل أزمات شرعيتها، وتفشل في مواجهة التحديات بحلول جذرية، سرعان ما تجد نفسها مهددة بالانهيار تحت وطأة أزماتها المتراكمة.
إن استمرار النظام في إدارة الأزمات بمنطق التهرب والمماطلة لن يؤدي إلا إلى تعميق الهوة بينه وبين الشعب، وتعزيز الشعور بالاحتقان الاجتماعي. وبدلاً من التمسك بالأساليب القمعية أو استخدام التخويف كأداة لإسكات المعارضة، ينبغي على النخب الحاكمة أن تُدرك أن الوقت قد حان لتبني إصلاحات حقيقية تُعالج جذور الأزمات، وتعمل على تحسين حياة المواطنين، وتعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
يبقى السؤال المصيري الذي سيحدد مستقبل النظام السياسي في العراق: هل يمتلك شجاعة مواجهة أزماته الداخلية والخارجية، والبدء بمسار إصلاحي شامل يعيد الشرعية لوجوده؟ أم يظل أسير مخاوفه وتناقضاته حتى تتحول أزماته إلى قوى طاردة تدفعه نحو الانهيار الحتمي؟ الإجابة على هذا السؤال هي ما سيحدد ملامح العراق في السنوات القادمة.