TOP

جريدة المدى > عام > جُبنة ألسخوت(*)

جُبنة ألسخوت(*)

نشر في: 12 فبراير, 2025: 12:03 ص

كريم راهي
هنالك طُرفة سمِجة، منشؤها شرق أوسطيّ، مفادها أن جزّاراً طرح أحد الخرفان أرضاً بغرض ذبحه، لكنّ الخروف -الذي تُقدّمه هذه الطرفة بصفات آدمية- وبدلاً من أن يتولّاه الفزع من الموت ذبحاً، راح يضحك بمرح غامر وهو تحت حدّ السكّين، وحين سُئل هذا الخروف العاقل عمّا يوجب الضحك، أجاب أنه يضحك لأن الجزّار كان يمسك السكّين بالمقلوب.
على مثل هذه الطرفة السورياليّة التي لا تُضحك غير شهود الحروب العدول أمثالنا، ينطبق مفهومان فلسفيّان سادا لحقبة ما بعد الحرب العظمى؛ العدم والعبث، من وجهة نظر الخروف ذي السمات الآدميّة الذي وجد في ما تبقى له من ثوانٍ معدودات في حياته، فرصة لكي يحيا حياة عمر خيّاميّة لا أباليّة. أمّا نحن المتلقّين، فقد يكون ضحكنا عليها متأتّياً من مقدار ما تضمّنته من (تراجيكوميديا) عابرة لحدود المعقول إلى ما هو لامعقول؛ الركيزتان الأهم في صناعة "التنكيت والتبكيت" التي وسمت حيواتنا.
غير أن هذه المأساة المبطّنة بالملهاة -أو المغلّفة بها- هي المادة الأوليّة للدراما، والتي نجد مثالاً واضحاً لها عند أهل الصنعة المسرحية، في (حلم ليلة منتصف الصيف) مثلاً لأبيهم الروحيّ (وليم شكسبير)، أو في سواها من أعمال الدراما الأقرب إلينا زمنيّاً، تلك التي أفرزتها فترات الحروب وما تلاها من عواصف اقتصاديّة وتغيّرات نفسية، أو ما خلّفَته من تمايزات طبقية على كل الأصعدة، كان ضحاياها أبطال المسرحيّات والروايات الساخرة لتلك الحقب وما تلاها. ولا بأس أن نُشير إلى (موليير) هنا، أستاذ الهزل الفرنسي.
وبديهيٌّ أن مثل هذه القصص الدراميّة لا تقتصر على المسرح وحسب، فهي تشكّل في تناقضاتها نُوايّات الثمرات الإبداعيّة في الأدب بشكل عام، تلك التي سوف ينطلق ما هو محلّي منها إلى العالميّة؛ كلّما أتقن صانعها عمله.
يندرج تحت هذا الكثير من الأعمال الروائية الرائجة؛ (فندق بودابست الكبير) مثلاً، للنمساويّ (ستيڤان زفايج)، أو (ساعي بريد نيرودا) للتشيليّ (أنطونيو سكارميتا)، وبدرجة أقرب للتشبيه، ما هو أبعد بحقبته الزمنيّة من أولئك، وأعني بذلك أدب (البيكاريين)، ورثة الشطّار والعيّارين الأندلسيين، الذي أنتج لنا الشخصية الأسطوريّة الفاعلة في رائعة (ميخيل ثيربانتس) الأثيرة (دون كيخوته دي لا مانشا)، وبالطبع تابعِه الغيور (سانشو بانثا) الشخصية الثانوية الطاغية. والأمثلة كثيرة، لا ننسى منها (الجنديّ الطيب شفيك) حتماً.
في رواية (جُبنة) للكاتب (ڤيلم ألسخوت 1882-1960)، البلجيكي الناطق بهولنديّة محليّة، ثمّة دون كيخوته (ڤلاندري) معاصر، موظف عاديّ في شركة ليست بتلك الدرجة من تلبية المطامح، يقرّر فجأة أن يكوّن ثروة من خلال العمل بالتجارة، ويختار بالذات تجارة الجبنة التي يكره رائحتها ويصفها في أكثر من موضع بالنتانة؛ وذلك إثر نصيحة غادرة من أحد معارفه يحمل اسم (ڤان سخونبيكه)، يطرحه الكاتب في مقدمة تعريفه بشخوص الرواية، على أنه من يقف وراء جميع المتاعب. إنّها بتعريف معاصر، رواية تتناول قبح الرأسماليّة وكيف تسحق تُروسها الحديديّة العملاقة الإنسان المغلوب على أمره. شيءٌ ما يُذكّر بمشهد مشهور من فيلم (الأزمنة الحديثة) لعبقريّ السينما الصامتة (شارلي شابلن).
إن (فرانس لارمانس)، وهو الشخصيّة المحوريّة التي تدور أحداث الرواية على لسانه، شخصٌ ذو حظّ عاثر غالباً ما نجده بيننا، بل ونلتقيه عند كلّ الأماكن وفي سائر الأوقات. إنّه إنسان عاديّ يعيش أزمة منتصف العمر ويسعى إلى الثراء دون أيّة مؤهلات سوى الطموح المفاجئ بالحصول على المال بعد سلسلة تراكميّة من اليأس وخيبات الأمل. ميلودراما عن رتابة عيش سبّبتها الحياة الأسريّة غير المفعمة والتدرّجات الوظيفيّة اللامجدية. هنالك في جزء من الرواية ما يبعث على تذكّر شخصيّة المجاهد الحثيث (أكاكي أكاكيفتش) بطل (المعطف) للروائي الروسي الكلاسيكيّ (نيقولاي غوغول)، الرواية ذات الأثر الأدبيّ الخالد والمؤثّر في مجمل الأدب الروسيّ المكتوب بعدها، باعتراف من مواطنه الروائيّ الفذّ (إيڤان تورجينيف) في قولته الشهيرة: "لقد خرجنا كلّنا من معطف غوغول"!
في رواية (جُبنة) ثمّة زوج مقهور هو أبٌ لابن وبنت مراهقين، يعترف بامتلاكه لمُركّب نقص يقوم بإسقاطه على زوجة مسكينة لا شاغل لديها سوى العمل المنزليّ اليوميّ الشاق، ورغم ذلك فقد كانت تقف وراءه لإقالة عثراته ومعالجة مواطن إخفاقاته التي يعترف للقارئ صراحة بها -في نفس الوقت الذي يجهد في أن لا يظهر عليه شيء من ذلك أمامها- على أنّها تركيبة عائليّة كوسموبوليتيّة ليست بذات التميّز في مجتمع ثلاثينيّات القرن الماضي، سواء في أوروبا أو خارجها. هذا الزوج غير النصوح يجد نفسه منساقاً وراء خدعة أوقع نفسه فيها من تلقاء نفسه.
في الرواية سنكتشف أن هذا الشقيّ الذي يهتمّ بالجزئيّات أكثر من اهتمامه بالأساسيّات، سيغفل في خضمّ هوسه المفرط بالتفاصيل التافهة، عن هدفه الأساسيّ، وهو تصريف عشرين طنّاً من الجبنة ضمن سقف زمنيّ حدّده له تاجر جملة. وسوف يلتقي كرجل أعمال حثيث، برجال أعمال حقيقيّين يحاول أن يجد لِذاتِه المكسورة مكاناً متميّزاً بينهم، وستترتّب عليه الكثير من الالتزامات التي تحول بينه وبين ما هو موكل إليه أصلاً.
إنّه ببساطة شخصيّة إنسان يفكّر بأحادية قطبيّة متفرّدة، أجاد الراوي طبخها ليقدّمها طبقاً دسماً أمام القارئ المتلهّف لهذا النوع من السهل الممتنع في الأدب. رواية يمكن لأي قارئ أن يلتفت بعد الفراغ منها إلى من هم حوله من جيران أو معارف، أو حتّى زملاء عمل، ليشير بسبّابته نحو واحد منهم قائلاً: "إن هذا الشخص يصلح لكتابة رواية مثلها". إن لم تشكّل تلك الإشارة باعثاً على الشروع بذلك العمل الكتابيّ فعلاً.
شخصيّاً، وحالما انتهيت من قراءتها، انتبهتُ إلى أن واحداً ممّن يصلونني بنسب، هو (فرانس لارمانس) نفسه، بجُبنته ولحمه، فهو إثر كل مغامرة اقتصاديّة مبعثها الفقر طبعاً، وهدفها الارتقاء بالدخل الماليّ المتواضع له ولأسرته؛ كان يوقع نفسه في مآزق يُحيل فيها كلّ ما جمعه من رأسمال للمشروع، إلى مديونيّة. وهو على الرغم من ذلك، ينظر إلى نفسه إثر كلّ كبوة، كونه ضحيّة مؤامرة احتيال حيكت خصّيصاً من أجل إيقاعه في متاعب يرى أنّه قادر على أن يتجاوزها في صولة قادمة. ولقد اشترى صاحبي هذا في آخر مغامرة له، عربة متهالكة دفع فيها ثمناً معقولاً وفقاً لرأيه، أدخله خلالها المرابون وسماسرة المال في متاهة قصّتها تطول، لم يخرج منها إلاّ وهو صفر اليدين، وقضى إثرها وهو متحسّر وحزين.
هنالك أيضاً في قصّة (الراعي وجرّة السُمنة)، المثال الحكائيّ المنبثق من المخيّلة الشعبيّة؛ ما هو أقرب لفهم طريقة تفكير هؤلاء المتحمّسين لحيازة المال، ممّن يعيشون وهم الثراء فتنكسر جرار ثرواتهم المتخيّلة بقوّة عصيّ واقعهم المعاش. فليست (قصور الرمال) ولا (الأحلام الورديّة) إلا مصطلحات تشير إلى مفاهيم حيّة أنتجتها حيوات مكشوفة لمثل هؤلاء التعساء، بتوالي الأحداث وتكرارها المتجدّد زمنيّاً.
رواية (جُبنة) بعد كلّ هذا سهلة القراءة والفهم، ليست هنالك من تعقيدات أو حبكات دراميّة ولا فذلكات لغويّة تنطوي عليها، إنّها ببساطة، رواية تحاكي الحياة وتدعو إلى عيشها وفق منطوق تقبُّل العسل بمذاق العلقم، ناسفة بذلك مأثورات طالما تمّ الأخذ بها على أنها مسلّمات، من قبيل "إنّك لا تجني من الشوك العنب".
كما أن هذه الرواية ليست بذلك الطول، إذ يمكن حتّى للقارئ غير الصبور، أن ينكبّ عليها فيُنهيها في جلسة واحدة على مقعد في رحلة عاديّة بالقطار، أو متّكئاً على ظهر كرسيّ في مقهى دافئ، بانتظار أحدٍ ما، حسنتهُ أنه ليس دقيقاً في مواعيده.

(*) المقالة، بتصرّف، كان من المفترض أن تكون مقدّمة للترجمة العربية للرواية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

عدد جديد من مجلة (المورد) المحكمة زاخر بالبحوث العلمية

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram