TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مقارنة بين "شرعية الإنجاز" في النموذجين السعودي والعراقي

مقارنة بين "شرعية الإنجاز" في النموذجين السعودي والعراقي

نشر في: 13 فبراير, 2025: 12:01 ص

أحمد حسن

إن كل نظام سياسي هو تجسيد لمعنى الشرعية في سياق زمني ومكاني معينين. الشرعية ليست مجرد اعتراف شعبي أو دستوري بسلطة ما، بل هي اتفاق ميتافيزيقي بين الحاكم والمحكوم على معنى السلطة وجدواها. هذا الاتفاق ينبع من قدرتها على تبرير وجودها وتماسكها أمام أسئلة عميقة: ما هو الخير العام؟ ما هو العدل؟ وكيف يُمكن للسلطة أن تحقق توازنًا بين الفرد والمجتمع؟.
في النموذج السعودي، يتجلى مفهوم "شرعية الإنجاز" كأداة مركزية لاستدامة السلطة في مواجهة تحديات العصر. كان النظام السعودي في بداياته قائمًا على شرعية مستمدة من الموروث الإسلامي السني، حيث كان التحالف بين عائلة آل سعود والمؤسسة الوهابية تعبيرًا عن هوية مركزية متماسكة. غير أن هذا التماسك واجه تحديات كبرى في ظل تطورات اجتماعية واقتصادية فرضتها التحولات العالمية. هنا تحولت الدولة إلى تقديم "الإنجاز" بوصفه معيارًا للشرعية، حيث أصبحت المشاريع العملاقة، مثل "نيوم" ورؤية 2030، بمثابة رموز لقدرة النظام على إنتاج الخير العام في زمن يتسم بعدم اليقين.
إن "شرعية الإنجاز" السعودية ليست مجرد استجابة لحاجات آنية، بل هي محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع عبر التحديث الاقتصادي والاجتماعي. غير أن هذا النموذج يُبنى على فرضية خفية: وجود وحدة اجتماعية متماسكة تتقبل الإنجاز كتعويض عن غياب التعددية السياسية. هذه الوحدة، رغم نجاعتها الظاهرية، تُخفي توترات عميقة ترتبط بإشكالية الهوية والتنمية المتوازنة داخل مجتمع متنوع ثقافيًا ومناطقيًا.
أما العراق، فهو حالة فلسفية مختلفة تمامًا. الشرعية هنا ليست محض اتفاق حول الإنجاز المادي، بل هي مرآة لتعقيد بنية اجتماعية عميقة الجذور. العراق ليس كيانًا سياسيًا أحادي الهوية، بل هو نسيج متداخل من الطوائف والأعراق والثقافات، حيث تتصارع مفاهيم الانتماء والتعددية في تشكيل معنى الدولة. لقد حاولت الأنظمة السابقة، وخاصة خلال عهد صدام حسين، فرض مفهوم أحادي للسلطة يتجاهل هذا التنوع. الشرعية حينها كانت تُبنى على الخوف والإقصاء، لا على التوافق والاعتراف.
بعد 2003، أعاد العراق اكتشاف التعددية كمصدر شرعية، لكنها كانت تعددية مرتبكة، أُفسدت بفساد المؤسسات وسياسات المحاصصة. التعددية هنا ليست مجرد تقاسم للسلطة بين المكونات، بل هي فلسفة عميقة تتطلب الاعتراف بأن الهوية العراقية ليست جوهرًا واحدًا، بل هي شبكة من العلاقات المتداخلة التي لا يمكن فصلها أو قمعها دون تدمير الذات الوطنية.
إن مقارنة النموذج السعودي بالنموذج العراقي تكشف عن صراع بين تصورين للشرعية: أحدهما أحادي يرتكز على إنجازات مادية لتحقيق الرضا الشعبي، والآخر متعدد يعتمد على التوافق الاجتماعي كشرط أساسي لاستقرار النظام. "شرعية الإنجاز" السعودية، رغم نجاحها في تحقيق استقرار نسبي، تبقى رهينة قدرة الدولة على استمرار إنتاج الإنجازات، ما يجعلها عرضة للتقلبات الاقتصادية أو السياسية. من جهة أخرى، العراق، بتنوعه العميق، يثبت أن الإنجازات المادية وحدها لا تكفي لضمان الشرعية؛ بل إن الاستقرار يتطلب بناء عقد اجتماعي جديد يستند إلى احترام التعددية واستيعابها كقوة خلاقة، لا كعبء سياسي.
التاريخ يقدم درسًا بليغًا في هذا السياق. في العصر العباسي، أدرك الخليفة المأمون أن استقرار الدولة لا يمكن تحقيقه إلا عبر احتضان التعددية. جمع المأمون بين العرب والفرس والأتراك داخل دولته، وفتح آفاقًا للتفاعل الثقافي والعلمي، مما جعل بغداد مركزًا عالميًا للإبداع الفكري والعلمي. لم يكن هذا النجاح وليد إنجازات مادية فقط، بل كان نتيجة فلسفة سياسية ترى في التنوع مصدرًا للقوة والإبداع.
إذا تأملنا هذا الدرس في سياق العراق الحديث، نجد أن الشرعية الوطنية لا يمكن أن تُبنى على فرض رؤية أحادية للهوية أو السلطة. المشاريع الكبرى قد تُحقق رضا مؤقتًا، لكنها لا تستطيع معالجة الجروح العميقة التي خلفها عقود من الإقصاء والقمع. الشرعية الحقيقية في العراق يجب أن تُبنى على فلسفة تستوعب التعددية كشرط وجود، وليست كمعضلة تُحل.
يمكن القول إن الفرق بين النموذج السعودي والعراقي ليس مجرد اختلاف في الوسائل، بل هو انعكاس لتباين فلسفي عميق حول معنى الشرعية والسلطة. السعودية تُراهن على مركزية الإنجاز كوسيلة لتوحيد المجتمع، بينما العراق يُظهر أن التعددية، بكل ما تحمله من تناقضات، هي وحدها القادرة على إنتاج شرعية مستدامة. السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن للعراق أن يُعيد اكتشاف نفسه عبر إدارة تعدديته بشكل خلاق؟ وهل تستطيع السعودية التوفيق بين "شرعية الإنجاز" والحاجة إلى إصلاحات سياسية تضمن تمثيلًا أوسع؟. الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد ليس فقط مصير النظامين، بل طبيعة العلاقة بين الشرعية والتنمية في العالم العربي والاسلامي ككل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: دمشق صادق جلال العظم

العمود الثامن: تعريف المواطنة

العمود الثامن: آخر نكاتنا !!

باليت المدى: الجمال الذي تجاوزَ اختبار الزمن

ترامب غزة - ريفيرا الشرق الأوسط والنظام الدولي إلى أين ؟

العمود الثامن: محبة الاوطان

 علي حسين كلما يدور حديث عن المصالحة الوطنية التي تتحول مرة إلى المصالحة التاريخية، ومرة أخرى إلى المصالحة المستدامة، أتذكر الزعيم الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا، وأخشى أن أسال: لماذا لايوجد مانديلا عراقيّ؟ لأنني...
علي حسين

قناديل: فتاةٌ هندية وأميرٌ لبناني

 لطفية الدليمي كتب الأمير شكيب أرسلان كتابه الأشهر (لماذا تخلّف المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟) عام 1930. صار الكتاب اليوم يُصنّفُ في عداد الكلاسيكيات التي من المفيد قراءتُها والإستئناسُ بأفكارها رغم أنّ مياهاً كثيرة...
لطفية الدليمي

إنقلاب البعث في 8 شباط 63... ماذا بعد؟

عصام الياسري بعد منتصف الليل بقليل بالتوقيت المحلي، قامت في الثامن من شباط عام 1963 عناصر من القوات المسلحة والقوى الرجعية وحزب البعث بدعم أمريكي، بانقلاب على النظام الوطني في العراق. مع مرور الذكرى...
عصام الياسري

معارك إيلون ماسك .. الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) نموذجاً

حسن الجنابي قرر الرئيس الأمريكي وصديقه، الوزير بدون مرتب، الملياردير إيلون ماسك، التخلص من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية "يو أس أيد". وهذه من أكبر الوكالات الأمريكية التي تسهم في نشر الوجود الأمريكي في بقاع...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram