د. عادل الثامري
النص
مدينةٌ بالقرب من شقتي
هذه ليست
مدينتي،
أنا العابرُ منذُ سنين،
لقد وجدتُ
جسراً يفتح لي العبور من مدينة إلى أخرى فمشيتُ.
أحياناً أجدُ حانةً صاخبةً يختلطُ فيها حلم الحمامةِ مع قفزة القرد على أريكةٍ واحدة.
ضجرتُ
من صاحبِ الحانة يدفعُ السكارى المعربدين الى الرصيف ويؤنبهم بلهجة رفيعة التهذيب.
في أول كأس لي من الخمرة شربته من يدِ سيدةٍ تفكّ المسحور وتشطره إلى نصفين.
كانَ وقتي لهباً حينما عبرتُ
وعالمي حديقة خصبة،
امطارٌ من العطرِ تنسج وردة الأساطير.
قبل أيام خرجتُ
أبحثُ عن حانةٍ قريبة من الشقة.
دخلتُ
المدينة التي كانت على بعد أمتار من خطوتي الأولى قبل الخروج.
رأيتُ
العابرين يتكلمون نهشاً، فتسيل من الأنياب الدماء.
عرفتُ
أنَ أيامهم سجونٌ.
والطريق حواجز، حاجز بعد حاجز،
وقد تعطّل الكلام،
يزدحمون في المقهى حتى انهم لا يرون بعضهم لشهور.
دخلتُ
مكتبةً عابرة،
وجدتُ كتبها على الرفوف تفيضُ صمتاً،
ومن طيّةٍ الى طيّةٍ أخرى تمشي كلماتُها الى الوراء.
وقتي ماكرٌ مثل ثعلب يحفر نفقاً بين حفرتين،
الجسر بين شقتي والمدينة هدمتهُ الحيلةُ
والأيام تركضُ يمينًاً ويسارًا،
وهذا ما يجعلني أقفلُ الباب بعيدًا عن الشمس.
النقد
قصيدة "مدينةٌ بالقرب من شقتي" تجربة شعرية تشتغل بين السرد والتأمل، يعكس الشاعر زعيم نصّار فيها إحساسًا بالعبور الدائم، والتناقض بين المدينة كفضاء مفتوح والشقة كحيّز مغلق. القصيدة ليست وصفا لرحلة في مدينة مجهولة، بل محاولة لاستكشاف الاغتراب الداخلي عبر الإيقاع السردي والانتقال الزمني والمكاني.
تعتمد القصيدة إيقاعًا سرديًا حركيا ينبع من تكرار الأفعال، والتنقل بين الجمل القصيرة والطويلة، ما يخلق توازنًا بين السرد الحدثي والتأمل الذاتي.
يبدأ الشاعر قصيدته بنفي الانتماء: "هذه ليست مدينتي، أنا العابرُ منذُ سنين" هذه الجملة التقريرية تعلن منذ البداية أن المدينة ليست مألوفة، وأن المتكلم في حالة عبور مستمر. ثم يتوالى السرد عبر سلسلة من الأفعال الحركية مثل "وجدتُ، مشيتُ، دخلتُ، رأيتُ، عرفتُ"، ما يخلق إحساسًا بالحركة والتجوال. هذا التكرار لا يقتصر فقط على الأفعال، بل يمتد إلى تراكيب مثل: "دخلتُ المدينة... دخلتُ مكتبةً عابرة ". يُضفي التكرار هنا طابعًا إيقاعيًا يشبه نبضات متسارعة تعكس توتر الذات الشاعرة وترددها بين الدخول والخروج، بين الاستكشاف والانسحاب.
تُبرز القصيدة تحولات زمنية غير خطيّة، اذ يتلاشى الحد بين الماضي والحاضر، وكأن الزمن ذاته يعاني من اضطراب مماثل لحالة المتكلم. يبدأ الشاعر بالإشارة إلى ماضٍ ممتد "أنا العابرُ منذُ سنين"، لكنه سرعان ما يقفز إلى الحاضر المباشر في قوله: "بل أيام خرجتُ أبحثُ عن حانةٍ قريبة من الشقة." ثم تأتي جملة "وقتي ماكرٌ مثل ثعلب يحفر نفقًا بين حفرتين" لتكثّف الالتباس الزمني، اذ يصبح الوقت متحركًا وماكرًا، قادرًا على تغيير مسارات العبور بين الأزمنة. هذا الانزياح الزمني ينعكس في المدينة ذاتها، حين يصف الشاعر العابرين بأنهم "يتكلمون نهشًا، فتسيل من الأنياب الدماء"، وهو وصف رمزي يُحيل إلى مجاز الزمن كمفترس يلتهم سكان المدينة.
تلعب ثنائية المدينة – الشقة دورًا اساسيا في بناء دلالة القصيدة. فالمدينة، التي تبدو قريبة في البداية، تصبح لاحقًا فضاءً غامضًا مليئًا بالحواجز والمفارقات. في البداية، يصف الراوي تجربة عبور الجسر بسهولة، لكنه في النهاية يعلن: "الجسر بين شقتي والمدينة هدمتهُ الحيلةُ" هذا التحوّل يُبرز تحول المدينة الى فضاءً مغلق رغم اتساعها، وتحوّل الراوي من العبور إلى العزلة. فالمدينة ليست مجرد مكان، بل كيان متغير يفرض سلطته على العابرين. حتى المكتبة، التي يُفترض أن تكون فضاءً للمعرفة والانفتاح، تصبح كيانًا راكدًا: "وجدتُ كتبها على الرفوف تفيضُ صمتًا، ومن طيّةٍ الى طيّةٍ أخرى تمشي كلماتُها الى الوراء." المفارقة هنا أن الكتب، التي يُنتظر منها أن تحمل تقدمًا فكريًا، تتحرك إلى الوراء، وهو ما يعزز الإحساس بالزمن المتوقف أو المرتد.
تختزل الذات المتكلمة تجربتها بإغلاق الباب: "وهذا ما يجعلني أقفلُ الباب بعيدًا عن الشمس." إنه انسحاب رمزي، اذ يتحوّل الضوء (الشمس) من رمز للحياة والانفتاح إلى شيء يجب تجنبه. بهذا المشهد الختامي، تتكامل ثيمتا العبور والانغلاق، ليصبح المتكلم عابرا في مدينة، وفي الزمن والوجود ذاته.
تمثل قصيدة "مدينةٌ بالقرب من شقتي" نموذجًا لقصيدة نثر تمزج بين السرد شعريا والتأمل فلسفيا، اذ يتحوّل المكان إلى رمز، والزمن إلى لغز، والكلمات إلى انعكاسات داخلية. إيقاع السرد المدروس، والتنقل الزمني غير التقليدي، والانتقال المكاني بين الاتساع والانغلاق، كلها عناصر تجعل من هذه القصيدة نصًا منفتحًا على التأويل يعكس تجربة إنسانية متوترة بين البحث عن معنى والانسحاب من العالم.