حسن الجنابي
قرر الرئيس الأمريكي وصديقه، الوزير بدون مرتب، الملياردير إيلون ماسك، التخلص من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية "يو أس أيد". وهذه من أكبر الوكالات الأمريكية التي تسهم في نشر الوجود الأمريكي في بقاع العالم المختلفة، وخاصة في بلدان العالم الثالث تحت يافطة المساعدات الإنسانية والتنمية وتحسين الحوكمة ونشر الديمقراطية وتطوير القدرات، وغير ذلك الكثير من العناوين. وهي رمز لحضور، وربما أيضاً في حالات معينة هيمنة، الولايات المتحدة في البلدان الفقيرة، وتقوم بإدارة موازنة سنوية كبيرة تزيد على الـ 40 مليار دولار.
كانت "اليو أس أيد" ومنذ تأسيسها بقرار من الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي أداةً ليست عسكرية، أي قوة ناعمة، في الحرب الباردة مع المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفيتي، الذي كانت مواقفه تلقى رواجاً في بلدان العالم الثالث في مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار، وكان قد قدم مساعدات كبرى لثورات الاستقلال والتحرر من الاستعمار الغربي. ومنذ ذلك الحين انتشرت أنشطة الوكالة وأصبحت اللاعب الرئيس في ميادين المساعدات الإنسانية ومكافحة الأوبئة والأمراض، وفي البرامج والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية، ودعم المساواة بين الجنسين، والتدريب على التقنيات الحديثة والحوكمة وغير ذلك. ولا شك في أنها حققت نسب نجاح متفاوتة في العديد من مناطق العالم، وكانت انشطتها تلقى بعض الارتياح في عدد من المناطق المحرومة.
مثل العديد من "المساعدات" الغربية التي تقدم في بلدان العالم الثالث، وقد كانت وفق اعتبارات عديدة مساعدات مفيدة حقّاً، فإنها لم تكن بريئة كذلك، بل كانت مسيّسة. وليس هناك من يعتقد بأن "حسن النوايا" هو الدافع الوحيد للمساعدات والأنشطة على المستويات الدولية إلا السذّج. وفي أغلب الحالات، ان لم يكن كلها، فإن الأموال التي كانت تخصص وتنفق على البرامج الدولية لم تكن متناسبة دائماً مع النتائج، ويعزى ذلك الى عدة أسباب منها انعدام الجدوى، والكلف الإدارية وامتيازات العاملين والمشرفين على تلك البرامج، ومرتباتهم الشهرية، وكلف الحمايات الأمنية والإقامة والنقل والتأمين الطبي وغيرها. وحقيقة فهذه لا تقتصر على حالة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فقط، بل أن الأمر كذلك لدى المنظمات الدولية كافة، بما فيها وكالات الأمم المتحدة، المعروفة بترهلها وبيروقراطيتها وصرفياتها العالية. على سبيل المثال، ومن تجربة عملي، كسفير للعراق لدى منظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو)، فأنا على اطلاع بأن المنظمة كانت تستوفي حينها 12% من أي مبلغ مخصص لتنفيذ مشروع أو مشاريع في العالم، كمصاريف إدارية.
السيد إيلون ماسك، الوزير بلا حقيبة، المكلف بتدقيق صرفيات الحكومة الفيدرالية من خلال هيئاتها الكثيرة، وجد في تكليفه فرصة للانقضاض على كل ما يمكن التخلص منه من البيروقراطية الحكومية، أي القطاع العام. وهو يعتقد، مع صاحبه مطوّر العقارات الرئيس ترامب، بأنها هيئات ووكالات مترهلة وغير كفوءة، معتمدة على الإنفاق الحكومي دون تحقيق عائدات مالية لخزينة الدولة. هذا فضلاً عن كونها جزءاً من "الدولة العميقة" التي يسيطر عليها نسبياً أتباع الحزب الديمقراطي المنافس، وكان يستفيد منها كمراكز تأثير في الرأي العام، وربما أيضاً للتعبير عن التزامه بالديمقراطية المغلفة بصيغ معقولة من العدالة الاجتماعية، حيث تكون الدولة راعية لمصالح المجتمع، وتوفّر الحدود المعقولة للأمن والاستقرار الاجتماعي والوظيفي لفئات كبيرة منه، على شكل قطاع حكومي عام خارج سيطرة الاحتكارات والقطاع الخاص المنفلت.
يبلغ عدد الوكالات الحكومية الفيدرالية في أمريكا 430 وكالة، ويزيد حجم الإنفاق الحكومي من خلال تلك الوكالات على 6 تريليون دولار سنوياً. ويعمل فيها أكثر من 3 مليون مواطن أمريكي (الطريف ذكره على وجه المقارنة هو أن عدد الموظفين الذي يحصلون على مرتبات حكومية في العراق هو ضعف عدد نظرائهم في أمريكا).
والمدهش في هذا الشأن فإن القليلين من المتابعين صدقّوا تصرح إيلون ماسك قبل توليه المهمة، بأنه سيبقي على 90 وكالة فيدرالية فقط، وسيغلق بقية الوكالات. أي أن مئات الآلاف من العاملين سيتم تسريحهم (اقرأ إفقارهم) بقرارات فورية يصدرها أثرى رجل في العالم، تقترب ثروته لوحده من نصف تريليون دولار وتزداد بملايين الدولارات في الدقيقة الواحدة. وهو يعتقد بأن تلك الوكالات تهدر ما يقرب من 500 مليار دولار سنوياً!
تشغّل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لوحدها أكثر من 10 آلاف موظف منتشرون في أكثر من 60 بلداً عبر القارات يديرون موازنة تزيد على 40 مليار دولار سنوياً. وبذلك فهي مركز قوة وتأثير كبيرين وتعمل باستقلالية عالية عن تشكيلة البيت الأبيض الحكومية. ومع تجميد موازنة الوكالة وتسريح إداراتها العليا، أوقفت بالنتيجة عقود الوكالة مع أكثر من 400 مقاول كان يجري من خلالهم تنفيذ برامج الوكالة عبر العالم. كما أبلغ الموظفون والعاملون المشرفون على تلك البرامج في الخارج بضرورة ترك مقرات عملهم والعودة خلال شهر، مما دفع الجميع الى حالة غير مسبوقة من اليأس والخوف على مستقبلهم ومستقبل عوائلهم والتزاماتهم المالية الشخصية وغير ذلك من صدمات بسبب القرار المفاجئ لإدارة ترامب من خلال إيلون ماسك.
من المثير إن إيلون ماسك نفسه منع من الدخول الى مقر الوكالة في واشنطن من قبل حرّاس البناية وشعر بالطبع بالإهانة المستحقة. ولكن جرى بعد ذلك الحدث مباشرة تسريح أولئك الحراس الذين احترموا واجباتهم المعتادة وفق السياقات المعروفة.
لكن الأكثر إثارة هو أن إيلون ماسك ليس موظفاً حكومياً، وليس شخصاً منتخباً ومصادق عليه في الكونغرس، ولذلك فلا سلطة عليه من قبل الكونغرس، أو ربما حتى من قبل البيت الأبيض نفسه. وبهذا المعنى فهو رجل في غاية الخطورة على المؤسسات والمجتمع، وقد ظهر "طموحه الجامح" مؤخراً في تدخله السافر في الشؤون البريطانية والأوربية عموماً، وربما أصبح يقوده طموحه اللامحدود الى الاعتقاد بأنه "رئيس العالم".