لطفية الدليمي
كتب الأمير شكيب أرسلان كتابه الأشهر (لماذا تخلّف المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟) عام 1930. صار الكتاب اليوم يُصنّفُ في عداد الكلاسيكيات التي من المفيد قراءتُها والإستئناسُ بأفكارها رغم أنّ مياهاً كثيرة جرت تحت جسور العرب والعالم وتعقّدت الآراء مثلما تعقّد العالم علماً وتقنياتٍ وسياساتٍ واقتصاداً. يُجْمِلُ أرسلان أسباب تأخر المسلمين فيحصرها في عدة أمور، هي: الجهل والعلم الناقص، فساد الأخلاق، الجبن والهلع، اليأس والقنوط، نسيان المسلمين ماضيهم المجيد، شبهات الجبناء والجهلاء، ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين. واضحٌ أنّ مقاربة أرسلان ذات طبيعة قيمية - نفسية مركّبة، وهي مفيدة في كلّ الأحوال وفيها قدرٌ كبيرٌ من الصحّة. أظنُّ أنّ اللبنانيين ظلّوا دوماً الأكثر قدرة ورؤية في إستشراف معالم المستقبل العربي وتأشير مكامن النكوص والتخلّف فيه لأسباب تختصُّ بطبيعة الثقافة اللبنانية التي تتلوّنُ بألوان ليبرالية تنعدم نظائرها في البلاد العربية المصبوغة بلون واحد طاغ على ما سواه. هذا بالطبع قبل أن ينكص لبنان ويتحوّل مستنقعاً لتجريب كلّ أفانين التخلّف السياسي والإقتصادي فيه. أشيرُ في أيامنا هذه على وجه التخصيص إلى مطبوعات (مركز دراسات الوحدة العربية) ومنشوراته، وكذلك إلى الدكتوريْن (جورج قرم) و(أنطوان زحلان) ودراساتهما الممتازة في المقاربة الحديثة لموضوعة التقدّم التقني وارتباطها بالسياسات العامّة للدولة.
نُشِرَتْ، وستُنشَرُ، العديدُ من الدراسات العالمية عن بيوتات خبرة جامعية ودولية في موضوعة التقدّم والتخلّف؛ لكنّ هاجساً لديّ يقول لي أنّ التقدّم والتخلّف ينبعان من أفاعيل أو ممارسات صغيرة لا تكاد نحسب لها حساباً، أو أنّها تغيب في لجّة الإحصائيات والكلام البليغ ذي الصبغة الأكاديمية الجارفة عن سياسات التقدّم والتخلّف وإقتصادياتها.
تابعتُ منذ شهور عديدة على اليوتيوب فتاة صغيرة، تبدو في منتصف عشرينياتها، بملامح سمراء هندية، تنشرُ عبر قناتها على اليوتيوب خبرتها في الدراسة الجامعية حتى وصلت لمرحلة الدكتوراه في علم المعلومات الكمومية Quantum Information Science. أعترفُ بأنّ الخبرة الحقيقية التي تختزنها هذه الفتاة وتسعى لتقديمها للآخرين بكلّ أريحية وطلاقة هي تجربة ثمينة تستحقُّ أن نصغي لها ونتعلّم الكثير منها. توجد الكثير من أمثال الفيديوهات الخاصة بهذه الفتاة، ويتفنّن أصحابها في الحديث عن خبراتهم الثمينة، كما توجد مواقع خاصة على شاكلة (إسأل ونحن نجيبك) يمكن أن يعثر فيها القارئ على أجابات متعدّدة بمنظورات مختلفة لسؤال واحد. كم هي رائعة ومفيدة مثل هذه المنصّات؛ لكنّي أفضّلُ الفيديوهات المصوّرة بسبب طبيعتها التفاعلية المحفّزة للعقل والروح. أنت مع هذه الفيديوهات لا تتعامل مع كائنات شبحية بل مع شخوص تراهم أمامك، وسيكون لهندستهم الجسدية وإيماءاتهم الصغيرة مفاعيلُ تأثيرية كبيرة غير منظورة أو محسوسة في النقاشات المكتفية بالنصوص المكتوبة.
ثمّة الكثير من الخصائص النفسية والذهنية نشهدها في أمثال هؤلاء ممّا يمكن توصيفها أخلاقيات الإرتقاء الفردي، وهذه الأخلاقيات تصحّ في الميدان الأكاديمي مثلما تصحّ في غيره، وهي المفتاح الذي منه وبه ينشأ كلّ التقدّم العلمي والتقني الذي نعرف ونشهد. أوّل هذه الأخلاقيات غيابُ الخوف. لا خوف من فكرةٍ أو فعلٍ أو تجريبِ أمر جديد أو تعديل خطّة سابقة. الخوف يلتهم القلب ويجعل المرء أسير التردّد والإنخذال فيُفقِدُهُ الإنطلاقة الحيوية الطموحة ويقيّده في نطاق تمحور مَرَضي حول الذات. حكت مثلاً هذه الفتاة الهندية عن رغبتها في دراسة علم الحاسوب؛ لكنّها كانت تكره الرياضيات، وهذا ما دفعها إلى الإعتماد على مقاربة إنهزامية من المقررات الدراسية المتصلة بالرياضيات وترجيح كفّة الفيزياء، ثمّ تكتشف عبثية هذا المنهج فتقرّرُ البدء مع الرياضيات برؤية جديدة مدفوعة بمعونة من أستاذ رفيع المقدرة، وهنا كانت المفاجأة الكبرى: كانت رؤيتها للرياضيات مسبّبة عن خبرة مسبقة سيئة، وتطلّب الأمر منها جهداً حثيثاً لتعديل هذه الرؤية وقلبها رأساً على عقب. كذلك تحكي الفتاة عن ولعها بالأدب والفلسفة وكيف أنّها لم تقتل هذه الرغبة خلال دراستها لعلم الحاسوب. كانت الفتاة تحكي بثقة بيّنة لا تخفى على العين. من أين تأتي الثقة؟ تأتي من إنعدام الخوف والقبول بخوض التجارب الجديدة بكلّ ما يترتّب عليها من مسؤوليات وما تستلزمه من تعب ومشقّة. الثقة تنبع من القلب وتبثها العيون والشفاه وتساندُها القناعة الكاملة بأنّ الأعمال الجيّدة لا تأتي بالمجان، وأنّ الجهد الكبير سينتج عنه نتيجةٌ طيبةٌ لا محالة.
الأمر الثاني هو التكريس Devotion. ترى هذه الفتاة تتحدّثُ كمن كرّس ذاته لمهمّة كبرى في الحياة تستحقُّ العمل بأقصى الطاقات الممكنة، ولا مجال لأي مناورات أو تملّص أو لعب على الواجب أو التخفّف منه. تحدّثت الفتاة مثلاً عن الكتب المنهجية Textbooks المطلوبة في موضوعات محدّدة. كانت كلّ فينة وأخرى تؤكّدُ أنّ من يبتغي الدراسة الحقيقية المنتجة يجب أن يقرأ كل كتاب بالتفصيل ويحلّ كلّ مسائله حتى ينتقل إلى فصل جديد فيه، أو ينتقل إلى كتاب ثانٍ. القراءة المبتسرة أو المتعجّلة لن تفيد. يجب أن تمسك ورقة وقلماً وتحلّ بيدك ولا تكتفي بالنظرات المتسرّعة التي توهمك بمعرفة كاذبة. يجب أن تكرّس ذاتك لما تدرس أو تفعل وإلّا فأنت لست جاداً ولا تفعل سوى إضاعة وقت ثمين لن يتكرّر.
الأمر الثالث هو التواضع. التواضع الحقيقي نتعلّمه من العلم ومصاحبة العلماء الحقيقيين بعيداً عن الإعلانات الفلكلورية الصاخبة. حكت هذه الفتاة التي تدرس في جامعة أكسفورد عن محاضرة ألقاها أستاذها في جامعة أكسفورد (روجر بنروز) وكيف تناقشت معه عقب المحاضرة حول موضوعة الوعي الكمومي وهما يتناولان فنجاني قهوة. عندما تجالس بنروز وأنت طالبٌ بعدُ ستعرف معنى التواضع الحقيقي. لن تقول له (خادمك) أو (تأمرني أمر)، ولن تضطر لتقبيله ثلاثاً أو أربعاً مع هز الأكتاف مع بعضها، ولن تضطر لدعوته إلى غداء مكلف، وليس هو معنياً بكلّ هذا ولم يعتبره يوماً جزءاً من إستحقاقات أستاذيته. يكفي الحديث المفيد وأنت تشاركه فنجان قهوة.
الأمر الرابع هو الإبتعاد عن فخ وهم المعرفة. عندما لا تتاحُ للمرء فرصةُ تبادل الآراء وحضور الملتقيات والمؤتمرات، والدراسة صحبة أساتذة بارعين ومشهود لهم بالألمعية والفرادة ستغيب لديه البوصلة المعرفية، وسيتوهّمُ أنّ كلّ فكرة طارئة تمرّ بخياله إنّما هي فتح عظيم وانعطافة معرفية خارقة، والمؤلم أن يعيش هذه الأخدوعة طوال حياته، وأن تقوده هذه الأخدوعة إلى نمط من الغطرسة الأكاديمية. الأشدّ إيلاماً أن يخدع المرء نفسه ويرى هذه الأخدوعة حقيقة. تخيّلوا الأمر لو تحقق المرء من حقيقة الأخدوعة التي عاش كلّ عمره في وقت متأخر من حياته!! سيكون الأمر كارثياً من غير شك.
الأمر الخامس هو السعي الحثيث وراء طلب المعرفة. لم تذكر الفتاة مرّة أنّها بعد أن تنهي الدكتوراه ستعمل في موقع (كذا) أو جامعة (كذا) وبمرتّب (كذا). لم تتعامل مع الدكتوراه كإمتياز يجب أن يرتّب لها مزايا مادية أو إعتبارية أفضل بل تكلّمت عن الدكتوراه كرحلة جميلة تسعى بعدها للإستزادة من المعرفة في نطاقات جديدة لم تختبرها من قبلُ. هذا لا يعني أبداً أنّ الفتاة كائن سريالي أو فنتازي يعيشُ في عالم من الأوهام الخالصة. هي تعرف قيمة المال بدليل أنّ الكتب التي كانت تعرضها كانت مستعملة ولم تسعَ لشراء نسخ جديدة منها توفيراً للمال؛ لكنّ المال الذي يحدّ من قدرات المرء ويجعلها تتحرّك على ضوء المنافع المالية الآنية ليس مالاً طيباً، ولا يتصرّف البشر الطموحون الحقيقيون بموجب شروط رأس المال فحسب.
أظنّ بعد سنوات ليست بالبعيدة سنرى هذه الفتاة التي لم أحفظ إسمها قائدة في مشروع ريادي للذكاء الإصطناعي، أو أستاذة في هارفرد أو ستانفورد أو MIT، ومؤلفة لكتب ممتازة تحظى بقراءات مليونية في كلّ العالم.
أخلاقيات العمل والطموح والإنجاز هي التي تحدّدُ شكل الصورة الكلية للبلد مثلما تحدّدُ مدى نجاعة السياسات الحكومية، وليس العكس صحيحاً. لن تنجح أرقى السياسات المختبرة مع نفوس مخرّبة إستطابت العبث وإضاعة الوقت وممارسة الخديعة والسرقة المتلفّعة بأغطية قانونية.
أظنّ أنّنا سنتعلّم من هذه الفتاة الهندية أكثر بكثير ممّا تسعى إليه كتب السياسات التنموية. المهمّ أن نتعلّم ونسعى للتغيير سواء من فديو لفتاة هندية تدرس في أكسفورد أو من كتاب قديم كتبه أمير لبناني متنوّرٌ قبل ما يقاربُ القرن من الزمن.