متى يمتلك المبدع حصانة ثقافية بحيث يقول "كل" ما يريد ويتصرّف كما يشاء، دون إقامة اعتبار كبير للمواضعات الثقافية والإيطيقية وحتى السياسية المعتبرَة معايير وقواعد عُرْفية في لحظة الكتابة؟ متى يمتلك المثقف "حصانة ثقافية" تسمح له بالتعبير الخارج عن المألوف دون أن تقع مساجلته بالحدّة التي تقع حالما يُعبِّر مثقف آخر لا حصانة له عن الأمر نفسه؟ أنْ يقول المرء اليوم شيئاً مغايراً عن "ثورات الربيع العربي" من دون هذه الحصانة الثقافية، سيعرضه في الغالب للتجريح أكثر من غيره.
يبدو لنا أن الحصانة الحقيقية تنهض من جدارةٍ إبداعيةٍ وتواصُل ثقافيّ مستمر ووعي لا يُشكّ بأصالته. لقد سمحتْ شروط الحصانة النسبية هذه لمثقفين وشعراء عرب، قدامى وجدد، بالجرأة أكثر من مجايليهم، وبجرعات عالية من الحرية الداخلية وبمساجلة المطمور ومساءلة الشائع، بل المروق عن الأخلاقيّ والدينيّ كليهما (كأبي العلاء المعري وأبي نواس قديماً) بل بالشطح أحياناً.
لا تشكل الحرية وحدها، ولا سيادة المثقف على منبر ثقافي معروف لوقت طويل، ضمانة لأيّ حصانة ثقافية. يخيّل لنا أن هناك اليوم من يقترح لنفسه حصانة متينة عبر عمله في موقع إعلامي شهير وإقامته شبكة من العلاقات الثقافية الواسعة، ورسوخ اسمه بسبب التكرار، يستوي بذلك المُنصَّبون تنصيباً في وزارات الثقافة والإعلام العربية، والصحفيون العاملون في الفضائيات الشهيرة والشعراء المحرّرون الثقافيون في الصحافة العربية.
في أفضل النماذج وأرقاها يَفترض "الحصن الحصين" بأنه يمكن أن يصمت عن ظاهرة ويتكلم عن ظاهرة وفق روح انتقائيّ مريب، أنه يمكن أن يكون الفيصل في الخيارات الثقافية والنقدية، لكنه يقترح، في حالات أخرى، بأن الحديث عن "اليوميّ" و"الإشكاليّ المحليّ" أقل شأناً من شخصه، وأنه يجب أن يتناول بشكل أساسيّ الظواهر الثقافية العالمية والإبداع الأوربيّ والأمريكيّ والجوائز الأدبية المرموقة وما شابه. في الفيسبوك مثلا تراه لا يساهم بتعليق عابر ولا يلقي بإشارة ودّ أو بغضٍ، مع أنك تراه حاضراً وسط المعمعة. إنه أرفع من حوارات "السوقة" على منبرٍ "للعامة". إنه "المثقف المتعالي" أو " الترانسندانتال" كما استخدم مرة المصطلح علي حسين يونس ساخراً بشأن مختلِف. ونضيف أن مفهوم "الترانسندانتال transcendantal" لا يعني "التعالي" وفق الفهم السالب أو المقدّس العربيّ، لأنه مفهوم فلسفي استخدمه كانط وهوسريل ويتعلق بكل ما له علاقة بالمُحتمَل والاحتمال المعرفيّ. المعرفة الترنسندنتالية تتعلق بشروط المعرفة، خاصة معرفة الأشياء. والترنسندنتالية ترتبط بالتصوّرات الأولية أي بالتأمل الكليّ والجزئيّ، لذا ترتبط بالحدس عند كانط.
أنْ يتعالى المثقف عن الصغائر لا يعني، كما يخيّل لنا، عدم انهماكه بشجون الحياة، من جهة، بينما لا يمنح، من جهة أخرى، هذا التعالي (سنقول السمو) المعرفيّ والأخلاقيّ الرفيع حصانة ثقافية. عندما تصير الأخيرة رديفاً للغطرسة الثقافية يمكننا التوقف لمساءلة المشكلة في ثقافاتنا العربية.
إن الحرية، بصفتها شرطاً ومشروطية وليس انفلاتاً، لا يمكن أن تكون صنواً، حسبما تبرهن التجارب، للحصانة الثقافية، خاصة إذا لم تتلازم مع "حرية داخلية" طليقة من اشتراطات التخلّف. كثيرُ ممن يمارس "فعل الكلام" باسم الحرية اليوم في العراق وغيره من البلدان العربية، مثقل بإرث ريفي وتراث عشائري و"نخوة جاهلية" تدفعه أن يشتطّ ويتعسّف على محاوريه. بعض المثقفين الجدد والمسؤولين الإعلاميين في منطقة الخليج العربيّ يحسبون أن المال الوفير تحت تصرفهم وتهافت بعض المثقفين العرب بين أيديهم، كفيل وحده بمنحهم الحصانة من كل نوع. أضف لذلك أن القضايا السياسية الكبرى والتحوّلات المتسارعة والثورات اليوم لا تمنح المدافعين عنها أيضاً أي حصانة ثقافية لاتهام خصومها أو الواقفين موقفا نقدياً عقلانياً منها.
ليست (حرية التعبير) المشروعة والضرورية، من دون (حرية داخلية)، حصانة ثقافية لأحد كما نتوهّم أحياناً. يا للبداهة!