واحدة من أهم نقاط الضعف في وعينا أنه يتجاهل القضايا المألوفة، ولا يفحصها أبداً، لأنه لا يفحص إلا ما يدهشه ولا يدهشه إلا الغريب من القضايا والأشياء. ولذلك تبقى الأمور المألوفة في حياتنا بعيدة عن تساؤلاتنا وفحوصاتنا النقدية. علاقاتنا الاجتماعية مثلاً، ومع كل ما تحفل به من غرابة، لا تثير استغرابنا، لأنها مألوفة بشدة، طريقتنا في بناء المساكن، هي الأخرى مدهشة، لكنها مألوفة، ولذلك نحن لا نسأل لماذا تكون مساكننا دائماً مربعة أو مستطيلة، لماذا ليست مثلثة مثلاً أو دائرية، بالتأكيد هناك تبريرات، لكن الفكرة أننا لا نسأل.
قبل أيام فوجئت بأن أحد أصدقائي يُخْرِج العلاقات العائلية من بين العلاقات التي تكون المصلحة دافعها الوحيد، قلت له؛ بالعكس، ربما تكون العلاقات العائلية واحدة من أبرز العلاقات المبنية على المصلحة، لكنها علاقات مألوفة ولذلك لم نفحصها بدقة لنعرف مقدار الأغراض المصلحية فيها، فنهرني قائلا: طيب، جد لي ولو مصلحة واحدة في علاقة الأم بابنها، ما الذي ستجنيه من وراء سهرها الليالي لتربيته؟
ما قاله صديقي، يعبر عن النكتة التي أريد الوصول إليها، فجميع الأمهات سخيات في رعايتهن لأبنائهن، ما يتسبب في كون الرعاية هذه مألوفة كثيراً، ولهذا السبب نحن لا نسأل عن العلة الكامنة وراءها، مظهر حنو الأم على ابنها لا يثير استغرابنا، ولا يحثنا على التساؤل.
لكن، وجواباً على سؤال صديقي، لماذا تسعى جميع النساء إلى الأمومة؟ لماذا لا يستقر لهن قرار، ولا الرجال طبعاً، عندما مواجهة مصير العقم؟ والسبب أن الطفل يعطي، دون أن يقصد، لأمه بقدر ما تعطيه، الأمومة شعور تولده هرمونات خاصة، وهذا الشعور يولد ضغطاً عاطفياً لا يهدأ إلا بعد تلبيته، فمصلحة الأم في حنوها على ولدها تكمن بتفريغها الضغط العاطفي من خلال رعاية هذا الوليد. وتفريغ الضغط العاطفي مصلحة لا تختلف عن بقية المصالح، بل إن جميع المصالح تنحل في النهاية إلى عمليات تفريغ للضغوط العاطفية. البحث عن المال والأمان والصحة، كل واحدة من هذه المساعي مصلحة تتجه نحو تفريغ نوع من أنواع الضغط العاطفي.
من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم علَّة بقاء المسلَّمات العقائدية والفكرية وحتى العرفية، بعيداً عن التساؤل والفحص، ذلك أنها قضايا مألوفة.. وقد كان أبي، ولم يزل، ينزعج عندما أذكِّره بأن رقصة (العراضة) -وهي حركات راقصة يؤديها رجال العشائر لحظة إنشاد الأهازيج في المآتم- لا تختلف عن أي نوع من أنواعِ رقصِ الرجال، الذي يستهجن هو أكثره، فهو يرفض أن يرقص الرجال، لأن الرقص انتقاص للرجولة وامتهان لها كما يقول، لكنه لم يتساءل يوماً إن كانت العراضة رقصة أم لا، لأنها مألوفة لديه.
المغزى، أن تجاهل المألوف عاهة حرمتنا الكثير من فوائد الوعي، فلولاها لتعرضت جميع القضايا المألوفة في حياتنا للفحص والنقد والتمحيص، وكانت ستنهار أكثر الثوابت التي تهدد أمننا واستقرارنا الاجتماعيين.
مســـاكن مثلثة!
[post-views]
نشر في: 20 أكتوبر, 2012: 05:57 م