يقال أن النوستالجيا، أو الحنين للماضي، حالة تكبر مع تقدم العمر. وان تعددت أشكالها، فهي بالنتيجة محاولة من الذاكرة لاستعادة شطر من العمر لتلبية حاجة نفسية. كثير من علماء النفس يعتبرها جزءا من الحيل الدفاعية التي، برأيهم، ان استفحلت تتحول الى حالة مرضية تدعى "النكوص". وهي حالة تؤثر سلبا على السلوك فتجعل المعمر يعيش مراهقا وكأنه هو المقصود بكتاب "رجوع الشيخ الى صباه".
في ايام دراستنا لعلم النفس تعلمنا من فرويد أن نخضع ذواتنا للتحليل النفسي. كان هو يفعل ذلك مع نفسه دائما. وفي احدى تلك الجلسات التحليلية للذات، هاجت بخاطري ذكريات دراستي التخصصية. تنبهت الى اني لم أمارس تخصصي حتى بعد نيلي شهادة الدكتواره الا قليلا. سنوات طويلة من الدراسة والتدريب ركنتها جانبا لأعمل في ميدان الصحافة والإعلام.
اشتد الحنين فتحول الى همة للبحث عن طريقة اجدد بها معلوماتي او انشطها على الأقل. اهتديت الى طريقة ان التحق باحد الكورسات المكثفة التي توفرها الدولة البريطانية لمواطنيها مجانا. وعن طريقة مساعدة احد اساتذتي حظيت بفرصة لحضور جلسات علاجية جماعية تديرها استاذة ايرانية الاصل، جميلة حد البهاء رغم كبر سنها، وتتحدث العربية بلكنة تنعش الروح.
نساء ورجال، كلهم عرب، دفعتهم مشاكلهم النفسية للالتحاق بالحلقة الجماعية طلبا للعلاج.. وفي واحدة من تلك الجلسات دار الحديث عن الحنين وكيفية التفريق بين ما هو طبيعي منه وما هو مرضي. منحت الأستاذة المعالجة للحاضرين فرصة ان يغني كل منهم على ليلاه، او سموها بلواه، ان شئتم.
تحدث مصري وتبعته مصرية ولبنانية ثم لبنانية أيضا ومغربية وعراقية وفلسطينة الى ان وصل الدور لعراقية أخرى. كانت هذه المهمومة تتساءل اكثر مما تتحدت. ومن بين تساؤلاتها انها تستغرب حنينها على اخوتها الذي لا يبادلونها اياه. شرحت كيف انها كانت تعيش على المساعدة الشحيحة التي تمنحها بريطانيا للعاطلين عن العمل في ايام الحصار على العراق، وكيف كانت تتقاسمها مع اخوتها. ثم انها حين حصلت على عمل بذلت كل ما في وسعها لاخراجهم من العراق. وفعلا نجحت بجلب اثنين منهم للعيش في بريطانيا. وما هي المشكلة؟ انهما الآن منعّمان واحدهما حج بيت الله قرابة عشرين مرة لكنه قاطعها ويستعيذ من زيارتها بالله ويعاملها كعدو رجيم. ثم صرخت: ليش؟ ولا ندري هل كانت تسألنا أم تسأل نفسها ام تتصور انهما يسمعانها. وكما تتوقعون، انتحبت وبكت حد الانهيار. وبين كل حسرة وحسرة، ودمعة ودمعة، كانت تنشغ وتسأل: والله لو بس اعرف ليش يكرهوني؟
وبكى داعيكم على بكائها. أما الاستاذة فقد انتهت معها الى نصيحة مفادها ان تستغل الوقت في التفكير بنفسها بدلا من ان تفكر بمن تنكر لجميلها، وعندها ستكون حياتها أفضل. ردت العرقية: لا استطيع، فقالت الاستاذة: هذا هو نوع الحنين المرضي اذن.
رفعت يدي مستأذنا الحديث. لكنني تحدثت بلغة شاعر لا عالم نفس. قلت للإيرانية انه ربما الذي فيها حنان وليس حنين، والعراقيات حنونات بالفطرة يا استاذتي الجليلة. ردت الاستاذة قد يكون معك حق فيما ذهبت اليه لكني احتاج ان احدثك على انفرد بعد ان تنتهي الجلسة.
وفي غرفتها قالت لي انها لاحظت بكائي. وهل لي غير ان ابكي؟ مالك هل نسيت ان المعالج النفسي لا يجوز له التعاطف مع المريض؟ لم أنس، لكن الامر خرج عن ارادتي. أتعرف ان هذا يعني انك لا تصلح لأن تكون نفسانيا؟ نعم، ومن اليوم لن احن لايام تخصصي ووداعا للأبد يا سيدتي الجميلة.