لدى أحد أصدقائي ولدان، أكبرهما ذكي ولماح وحساس، لكنه يخاف من مواجهة الآخرين، وكثيراً ما يتعرض للضرب من قبل الأطفال الشرسين لأنه لا يحسن القتال. أما أصغرهما فذكاؤه طبيعي لكنه شرس وحاد الطباع، ويلجأ لاستخدام يديه في حل مشاكله. الأب يؤنب الكبير دائماً. يعتبره جباناً ولا يملك الصفة التي تؤهله ليكون رجلاً حقيقياً في المستقبل، وبالمقابل هو يحب الصغير، ويمتدح شجاعته باستمرار.
سألت صديقي هذا يوماً، كم مرة تعتقد أن ابنك الكبير سيحتاج إلى استخدام يديه دفاعاً عن نفسه أو دفاعاً عمن يلوذون به؟ فقال لا استطيع أن أخمن، قلت: فكم مرة احتجت أنت إلى ذلك؟ فأجاب، ربما أقل من خمس مرات طوال عمري.. طيب، قلت له، فكم مرة تعتقد بأن أحدنا يحتاج إلى استخدام عقله لإنقاذ نفسه من موقف أو حماية مصالح من يلوذون به؟ فقال: مرات لا تحصى، بل في كل يوم نحتاج العقل في مثل هذه المواقف.. إذن، سألته، فلماذا تحرص على أن يتحلى طفلاك بصفة نادراً ما يحتاجانها، وتهمل أخرى تعتقد بأن حياتهما تعتمد عليها؟
موقف صديقي هذا يمثل حالة عامة جداً، فلدينا حب كبير للطفل الشرس الذي يحسن القتال، وهذا إحساس طبيعي، والشجاعة بحد ذاتها ضرورية، لكن بالمقابل فإن الشعور بالخوف من المواجهة، الذي يجعل بعض الأطفال بنظرنا جبناء، ليسوا مسؤولين عنه، وهم لم يختاروه، وبالتالي فمن القسوة أن نعنفهم بسببه، أو نميز بينهم وبين غيرهم، مما يعرضهم لضغط عاطفي هائل. هذا من جهة، ومن جهة أهم، فإن ما نعتبره جبناً هو مركب في شخصية الفرد ناشئ من مجموعة من العوامل أو المشاعر والعواطف، منها الحساسية المفرطة، التي غالباً ما تكون سبباً في الإبداع أو العبقرية. من هنا فقلما يكون الأطفال المتنمرون أو الأشقياء، عباقرة عندما يكبرون. لذلك علينا أن نترفق بالأطفال الذين نعتبرهم "جبناء"، فهم في الحقيقة يفتقرون لصفة واحدة من مجموعة كبيرة من الصفات، صفة قد لا يحتاجون إليها في حياتهم كلها، وبالمقابل قد تكون لديهم صفات كثيرة تستحق الإشادة والتقدير، وقد تجعلهم مؤهلين ليكونوا أكثر شجاعة من غيرهم في المواقف التي لا تتطلب استخدام قبضات اليدين. وحتى بالنسبة للذكاء، فنحن نركز ـ ونشجع- على نوع واحد من أنواعه، ذلك الذي يأتي بدرجات عالية في الدراسة الابتدائية، مع أن هذه الدراسة، بالذات في مجتمعاتنا، لا تصلح للكشف عن كامل قدرات الأطفال. أقصد هناك ذكاء تحليلي، وهناك تركيبي، وهناك ذكاء اجتماعي. هناك طفل لديه قدرات رياضية كبيرة تؤهله ليكون عالم فيزياء، لكن لا تؤهله ليكون فناناً تشكيلياً، والعكس صحيح، ولكل من الفيزيائي والفنان، نفس الأهمية بالنسبة للمجتمع. علينا فقط أن نفهم حكمة التنوع والتعدد في القدرات، ونكف عن تعنيف الأطفال على صفات ليس لهم ذنب فيها.
جميع التعليقات 1
salam
موظوع مهم ورائع والاروع الطرح الجميل للاستاذ سعدون ضمد شكرا على هذه الملاحظات القيمة