جزء كبير من أزمتنا يدور في غرف الإعلام، وجزء أكبر منها يحدث لأن الإعلام بعنوانه العريض لم يحسن إدارة المادة التي بين يديه.
لا نتحدث هنا عن لغو الفضائيات والنواب المتخصصين بالتأجيج ،هؤلاء مثل عربة كبيرة تثير الغبار ستؤدي إلى تعمية الآخرين وحراثة الطريق وتترك عدداً من الحوادث خلفها وكثيراً من السُباب.
ليس اختراعاً عراقياً إن قلنا إنّ "ديمقراطية بلا إعلام حر"لن تكتسب نفسها أبداً ، لأن الأصل في ما نكتب ونقول وما ننشر أن نكون أحراراً، فقط إن كان هناك نظام ديمقراطي يحترم صفته ولا يسعى إلى الالتفاف عليها.
ومثل أي فترة زمنية تنتهي،لو يتاح فقط لعدد كبير من وسائل الإعلام أن تسال في نهاية العام، ماالذي قدمته كوسيلة إعلامية موضوعية خلال سنة؟.ماالذي تمكنت من كشفه ؟ما هو الرأي الذي طرحته وحرّكت بموجبه القاع المتكلس؟
طبعاً من لم يتوخَّ الموضوعية بالأصل فهو غير معني بوقفة المساءلة الإعلامية مع الذات هذه.
لكننا نتكلم هنا عن الإعلام،أو بقايا الإعلام،الذي يحترم نفسه(يعني يحترم جمهوره ولا يستغفله ولا يتورط في محاولة تدجينه)،ومع ذلك مازلنا نرقب الإعلام الحزبي المُتخلف الذي يعتبر أن خبر لقاء رئيس حزبه بثلـّة من المُتملقين أهم من خبر تمرير موازنة الدولة دون تمحيص أو بلا تحاسب وأهم من خبر انكشاف عورة الفاسدين بالصوت والصورة والوثيقة.
هذا الإعلام لم يقدم شيئاً خلال عامه الذي انقضى والأعوام التي سبقته ولن يقدم في المستقبل لأنه أقرب إلى "الإعلان"أو النشرة التعبوية التي كان جمهورها سيحترمها لو أنها دبّجت نفسها تحت هذا المسمى الصريح.
حدثني أحد القضاة من الذين تمرسوا لسنوات طويلة في مهنته، يصف أداء رجال القانون وتقييمهم لأنفسهم، قال:إن المحامي الجيد يقيّمه الآخرون وفقاً لعدد قضايا التمييز التي كسبها خلال حياته المهنية لا بعدد الدعاوى التي توكل بها.
بعض المحامين يدخل ويخرج إلى المهنة ولم يكسب دعوى واحدة أمام محكمة التمييز ،لأن كسب قضية خضعت للبداءة ثم للاستئناف واكتسب الدرجة القطعية ليس بالأمر السهل أبداً.
لو عكسنا هذا المثال على الصحافة ستكون الكشوفات التي قدمتها الوسيلة الإعلامية التي على إثرها تغير الرأي العام أم تغير الأداء الحكومي بالسلب أو بالإيجاب هو المعيار.
وحتى إن شحذت الحكومة سكاكينها بعد حادثة نشر صحفية وضيقت على الحريات بشكل عام فهو نجاح لا يتاح إلا للقلة من الإعلاميين والصحفيين ووسائل الإعلام التي يميزها المتلقي جيداً ، جمهورنا ليس بالمغفل أبداً.
وإن كان هناك من يحتج من الصحفيين بضيق المساحة المتاحة من الحرية أو بضيق صدر الوسيلة الإعلامية نفسها وتفعيل رقيبها، فإن الفضاء الاليكتروني ماعاد ملكاً لأحد.
لو تم نشر الحقيقة فلن يتمكن حتى الإعلام الحزبي الموجه من تجاهل وجودها ومن يرغب بنشر الحقائق من الصحفيين لن يعدم الوسيلة مهما ضاقت عليه السبل.
نهاية هذا العام هي مناسبة للإصغاء لصوت الموضوعية وصوت المهنية وإعادة تعريفها للذات قبل أن تكون عبر اجتهادات الدخلاء وغير المهنيين الإعلامية نسخاً شوهاء منها وما أكثر ما تم طرح هذا السؤال، ما هو الإعلام الحر؟...الإجابة البسيطة موضوعية بقدرحروفها،هو الإعلام الذي لا سلطان عليه إلا "للموضوعية" نفسها.
أما إذا حاول أحدهم أن يعبث بمعنى الموضوعية ..فسيكون مضحكاً أن يختبئ خلف أي عنوان ..سيميزه الجمهور مثل خروف أسود وسط قطيع أبيض.