TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية: لا للبراءة.. نعم للإدانة والتجريم!

الافتتاحية: لا للبراءة.. نعم للإدانة والتجريم!

نشر في: 26 يناير, 2010: 09:29 م

فخري كريم

لا غرابة في تصاعد الموجة المعادية للبعث الصدامي، في الرد على وقاحة الصداميين الجدد الذين فسروا مناخ التسامح والتساهل الذى وفرته العملية السياسية الديمقراطية،

كما لو أنه ضعف وتراجع، أو ربما هو قناعة لدى أطرافها بأن فشل مشروعها"وفقا لتقديرات البعثيين الجدد" فرصة مناسبة" لتوجيه الضربة القاضية "لهم، بإخراجهم من السلطة، "كما تنبأ صالح المطلك او ظافر العاني  ومن يشاطرونهما نهجهما السياسي المعروف.

لكن هذه المواجهة المطلوبة لم تتخذ منذ البداية المسار الصحيح والمنطقي، بل انها تأخرت كثيرا وراكمت عبر هذا التأخير سلبيات ومواقف وتدابير اساءت للعملية السياسية، واضعفت من وعي المواطنين لطبيعة هذه المخاطر وانعكاساتها السلبية المستقبلية.

ولاشك ان جانبا من هذا التشوش الذي رافق العملية السياسية والمواقف من البعث الصدامي، ارتبط بشكل مباشر بالتنافس بين اطرافها   والسعي لكسب اوسع الاوساط السياسية، بغض النظر عن طبيعتها ومواقفها ومشاريعها وارتباطها بالنظام السابق، الى جانب هذا الطرف او ذاك.

كما ان غياب مفاهيم واضحة للعقد السياسية التي ارتبطت بالوضع الجديد كان له اثر كبير في التخبط وتضارب المواقف والاجراءات بين الكتل السياسية المشاركة في العملية الديمقراطية.

فلم يجر الاتفاق بين هذه القوى على وحدة مفاهيمية لمصطلحات، المصالحة الوطنية، وما تعنيه بالتفاصيل، أي القوى المعنية بها، وطبيعة مشاركتها، والتوافق الوطني، والطريقة التي يجري اعتمادها في التطبيق العملي، وكذلك الامر بالنسبة  لتفسير ماورد في الدستور ازاء البعث، والتفريق بين البعث الصدامي، والبعث الاخر، وما هي خصوصيات الموقف ازاء كل طرف منهما، ومن هي الجهة المعنية بهذا التفريق، وماهي الحدود الفاصلة سياسيا وفكريا وتنظيميا بينهما.

وهذه الاشكاليات لا تزال تتفاعل دون ان تجد لها تكييفات واضحة، وهو ما يسبب المزيد من الارباك في الوضع السياسي ويعمق من ازمة المواطن في التعامل مع ما يجري، بل انه من جانب آخر يشكل دعاية مجانية للبعث الصدامي نفسه..حتى ان المواجهة الاخيرة للبعثيين الصداميين، واستثناءهم من المشاركة في الانتخابات، هي نفسها اخذت بعدا دعائيا اوحى للمواطنين كما لو ان البعث قادم! والا كيف يمكن تفسير الضجة الاعلامية حول الانقلاب العسكري والتحركات الواسعة للصداميين، بعد مضي هذه السنوات على وجود القوى الوطنية بمختلف مشاربها في مركز السلطة ودوائرها المختلفة؟

ولا ينبغي اغفال مدى الاساءة التي شكلتها الحملة المذكورة على خيارات البعثيين والموالين لهم، الذين نفضوا ايديهم عن البعث الصدامي وانخرطوا بوعي في العملية السياسية، ودافعوا عنها، بل وتعرض البعض منهم الى الملاحقة والقتل على ايدي الزمر الصدامية وازلامها. وكما اجرم بريمر، دون ان تعي ذلك القوى السياسية الوطنية، حينما رفع العزلة عن بقايا البعث الصدامي بشمول كل ضحايا البعث ممن اجبروا واقسروا بمختلف الدوافع للالتحاق الشكلي بالبعث، بإجراءات اجتثاث البعث، مع ان اجتثاث الاستبداد كان كفيلا باستهداف من كان من الضروري شمولهم بتدابير الاجتثاث، وكسب الاوساط الواسعة الاخرى التي انتظرت التغيير والخلاص من النظام الصدامي.

ان القيادات السياسية لم تتوقف بعمق امام قرارات واجراءات وتدابير قيصر المحتلين بول بريمر سواء فيما يتعلق بحل الجيش، او اجتثاث البعث،او غيرها من القرارات، مع انه في واقع الحال اعتمد بالدرجة الاساسية على البعثيين الصداميين في اعادة اجهزة الدولة ومؤسساتها منذ استلامه المسؤولية،  وبدد فرصة تاريخية لاعادة اصطفاف وطني يخلق المناخ الملائم لعزل البعث الصدامي وبقاياه،وتعبئة جميع القوى والمواطنين الى جانب التغيير، والانخراط في العملية الديمقراطية واعادة بناء الدولة. ولم يكن من اعتمدهم بريمر في اغلب الاحوال ممن اخلصوا للوضع الجديد، وتخلوا عن نزعاتهم القديمة، بل وتركوا اسوأ الآثار في مختلف المرافق التي شاركوا في بنائها، ومن ذلك الفساد الاداري والمالي والنهب الذي طال الدولة الجديدة من دون ان يتوقف حتى اليوم.

ولا يغيب عن البال ان البعث غير الصدامي، ومن كان يدعمهم لم يتحركوا في الاتجاه الصحيح لفرز انفسهم سياسيا وفكريا وتنظيميا عن بقايا البعث الصدامي، بل انهم لم يولوا اي اهتمام في المبادرة للمشاركة في بناء العراق الجديد.

ولكي لا نرتكب المزيد من الاخطاء والخطايا، لابد من وقفة جادة ومسؤولة ازاء القضايا التي لم تعالج حتى الان، ومنها وبالدرجة الاساسية، العمل على اعادة الاصطفاف الوطني على اساس الخيارات الديمقراطية المتاحة في بناء العراق الجديد، وفي مواجهة التحديات التي تزداد، وتتخذ طابع تهديد لعملية البناء من خلال الخلط في المفاهيم والتشويش على قوى العملية الديمقراطية، والعمل على خلق ظروف اصطفاف جديد بين المواطنين، يتجسد في اخطر ما يمكن ان يتهددها، وهو اللامبالاة والترقب والسلبية. وهذا الاصطفاف لن يتحقق، ولن ينجح ما لم يدعم بموقف مشترك من المفاهيم التي تستند اليها، وفي مقدمتها المصالحة والتوافق الوطني.

وفي هذا السياق، لا بد من التنبيه على خطورة ارتداد التعامل مع ظاهرة البعث الصدامي، على وعي المواطنين والعملية السياسية برمتها، والتذكير بالنهج والوسائل الصدامية في مكافحة وتصفية القوى الوطنية المعارضة للديكتاتورية، فالمطلوب توسيع قاعدة النظام الديمقراطي بتحقيق اوسع ادانة شعبية وسياسية لنظام صدام حسين، ولجرائمه ونهجه واساليبه دون استثناء، وجر من كانوا في دائرة النظام للاعتبارات المعروفة الى عملية التجريم والادانة العلنية. ولا ينبغي نسيان التأكيد على ان التجريم والادانة ينطويان بحد ذاتهما على عزل كل من يتجرأ على مواصلة حمل رسالة النظام المذكور.

ان الادانة والتجريم موقف وطني وانساني ينأى من يمارسه بنفسه عن الجريمة، وعن مرتكبيها والمزكين لها، والداعين الى اعتمادها في الحياة السياسية، وهي لا تنتقص من كرامة الانسان او حريته او عقيدته، فالجريمة والديكتاتورية وما يرتبط بهما لا علاقة له بعقيدة الاسوياء ولا بوطنيتهم ولا بكرامتهم.

اما اعتماد البراءة المشؤومة، فهي نزعة لا انسانية تعتمد القسر والاذلال ونفي حرية الاختيار، والانتقاص من الكرامة الشخصية، وهي اسلوب لا اخلاقي في التعامل السياسي ينبغي ان ننأى بانفسنا عن ممارسته.

ان البراءة التي ابتدعها النظام الملكي البائد وتوارثتها الانظمة الديكتاتورية، واعتمدها وجذرها زبانية صدام حسين، من شأنها ان تعيد الى ذاكرة المواطنين تلك البشاعات التي تجاوزت ممارسة الانظمة الفاشية والنازية بهولها مع الشيوعيين والقوميين وحتى الاسلاميين.

لا للبراءة، نعم للإدانة والتجريم...

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram