إصلاح الدولة العراقية | (2) |

آراء وأفكار 2017/08/07 12:01:00 ص

إصلاح الدولة العراقية |  (2)  |

لماذا لم  يُطبّق النظام الاتحادي؟ وما الحل؟
واجه العراق ثلاثة انتقالات جذرية بعد عام ٢٠٠٣، هي: الانتقال من الدكتاتورية الى الديمقراطية، ومن السلطة المركزية الى الفيدرالية، ومن النظام الاشتراكي في التنمية الى إعتماد اقتصاد السوق، وقد اكتملت هذه الانتقالات بصورة قانونية بعد الاستفتاء على دستور عام ٢٠٠٥، لكن تطبيقها تعثّر بسبب المحاصصة الفئوية منذ انتخاب أول حكومة دستورية عام ٢٠٠٦ وحتى لحظة كتابة هذا المقال.
تمثل هذه الانتقالات الجذرية أساساً هاماً لفرصة ذهبية كان على الحكومات الاتحادية والمحلية ان تستثمرها في بناء دولة عصرية مزدهرة، مستغلة فرصة انتعاش أسعار النفط ووصوله الى مستويات غير معهودة في تأريخ الصناعة النفطية درّت على العراق قرابة ٨٠٠ مليار دولار خلال أقل من خمس عشرة سنة. كانت هذه المبالغ كفيلة ببناء دولة مستقرة لو استثمرت عائداتها بصورة صحيحة، لكن سياسة تغييب التكنوقراط وغياب القيادة الكفوءة والواعية لمسؤولية الانتقال الجذري في ظل انعدام الآليات السليمة حال دون تطبيق الدستور الاتحادي. لقد هُدرت وسُرقت مئات مليارات الدولارات من واردات الدولة، وهذا ما فاقم موروث التحديات التي واجهها العراق، فأصبحت الديمقراطية ممارسة فوضوية مشوهة المعالم والحدود، والفدرالية مُعَطَلّة بين مركزية بغداد وكونفيدرالية أربيل، أما اقتصاد السوق فأصبح رهين ممارسات الانظمة الاشتراكية وامتناع الطبقة السياسية من تشريع القوانين الاتحادية الضامنة لقيام اقتصاد رصين ومزدهر وشفاف.
لقد أختُزِلَت الوظائف والعقود الحكومية بيد سلطة أحزاب المحاصصة بهدف ديمومة الوضع الراهن واعادة انتخاب ذات الشريحة التي أسست للنظام السياسي الجديد. كما كرست الريعية مفهوم الوظيفة الكسولة وغير المنتجة مما ضاعف ملاك القطاع العام من قرابة مليوني موظف حكومي عام ٢٠٠٣ الى سبعة ملايين موظف وعسكري ومتعاقد حكومي عام ٢٠١٧ يستنزفون موازنة الدولة ويتعاملون مع الوظيفة كبوليصة تأمين لاستلام رواتب شهرية دون ناتج محلي وخالية من المساءلة والمسؤولية ومشجعة للفساد ومنافسة لفرص العمل في القطاع الخاص الذي لم ينتعش إلا في اوساط شركات العوائل الحاكمة واتباعها.

الوضع الاقتصادي والاداري العام
لعل الاصلاح في حقلي الاقتصاد والادارة هو أهم ما يواجهه العراق من تحد، يوازي بثقله التحدي الامني، لأسباب عدة يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولاً: موروث سياسات الانظمة العسكرية والدكتاتورية التي تلت انهيار العهد الملكي بعد عام ١٩٥٨، بالاضافة الى ممارسات حكومات المحاصصة بعد انهيار نظام حزب البعث عام ٢٠٠٣.
ثانياً: إحتكار القرار الاقتصادي بيد سلطة الحكومة وبمركزية مسيّسة اختزلت غالبية المشاريع وفرص العمل في ظل الملاك الحكومي بحجة البيروقراطية والقوانين القديمة السائدة، الأمر الذي اجهض نمو الاسواق الحرة والقطاع الخاص وحيّد فرص الانتقال الى اقتصاد السوق. كما ان فشل وفساد وانعدام انتاجية الحكومات المحلية والاقليمية غير الكفوءة هو انعكاس حقيقي للأداء السياسي في الحكومة المركزية التي اشترك فيها جميع الاضداد.
ثالثاً: اعتماد سياسات خاطئة ومتقلبة في قطاع الطاقة لا تختلف منهجيتها عما سار عليه العراق قبل ٢٠٠٣ مما كرس الريعية النفطية في تمويل موازنات الدولة وتفاقم أزمة انعدام الخدمات العامة وانحسار دور المشاريع التي تعتمد على توفير المشتقات والطاقة الكهربائية التي زاد اعتمادها بعد ٢٠٠٣ على الاستيراد المُكلف للخزينة والمُفسد في الاستهلاك والتوزيع وحرمان المواطن من ابسط الخدمات.
رابعاً: حل المؤسسات والشركات التشغيلية العامة بعد الغاء كيانها المستقل ثم دمجها بالوزارات الحكومية خلال حكم حزب البعث، الأمر الذي سبب تضاربا في المصالح بين المؤسسات التنظيمية والجهات الخاضعة للتنظيم وخلق بيئة أسست للفساد وسوء الادارة وسوء الحوكمة، على سبيل المثال لا الحصر: حل شركة النفط الوطنية ودمج أقسامها بوزارة النفط عام ١٩٨٧. هذه المفاسد كانت مُحتكرة بيد الدكتاتورية الواحدة قبل ٢٠٠٣، لكنها توزعت محاصصة بين الاحزاب فيما بعد.
خامساً: بعد تعديل سُلم الرواتب الحكومية عام ٢٠٠٤، أعتمدت الحكومات اللاحقة موازنات غير واقعية حيث قامت بتمويل الابواب التشغيلية بكامل واردات النفط دون النظر الى تأسيس صناديق ثروات سيادية أو مشاريع استثمارية. هذه السياسة المالية رسخت اسس الفساد وسوء الادارة والمحاصصة السياسية التي أدت الى هدر مئات المليارات من خلال زيادة حجم الوظائف والمشاريع الوهمية فضلاً عن كلفة المنافع الترفيهة والتعويضية غير المُبررة لبعض طبقات المجتمع. قادت هذه القرارات والسياسات العبثية الى استنزاف مقدرات الدولة ليصبح حجم العجز الحكومي لموازنة عام ٢٠١٢ والبالغة ١٠٠ مليار دولار بحدود ٢٠ مليار دولار أكبر من كامل حجم الموازنة العامة لعام ٢٠٠٤ والبالغة ١٩.٩ مليار دولار حيث كان العجز حينها أقل من ٤ مليارات دولار فقط، أي ان الحكومة استهلكت جميع واردات الدولة للموازنات التشغيلية مع ثبات حجم العجز الحكومي بمعدل ٢٠٪، وهذه الكارثة من ابداعات المحاصصة السياسية لسرقة وتبذير المال العام.
هذا بالاضافة الى الكثير من السياسات الخاطئة كبدعة مزاد الدولار الذي اصبح حكراً لشركات الطبقات الحاكمة، وملفات استيراد المشتقات النفطية التي يتم تهريبها مجدداً أو بيعاً في السوق السوداء والاستفادة من هامش الدعم الحكومي، والتلاعب بملف البطاقة التموينية التي يتم استيراد مفرداتها بغطاء أحزاب المحاصصة ولا يغيب عنا ملفات وزارات الصحة والتربية والدفاع، وكلها قادت الى مفاسد بالمليارات فضلاً عن الانهيار والانحدار في الأمن والغذاء والصحة والتعليم والاقتصاد.

الحلول المقترحة
لم استعرض جميع التحديات الاقتصادية والادارية التي يواجهها العراق، كما لست بصدد اقتراح جميع الحلول التفصيلية في هذا المقال المقتضب، لكن على حكومات الاصلاح الحقيقية ان تبدأ بداية صحيحة وجريئة ووضع حلول قد يكون أحلاها مُر، ولعل من أولياتها ان يتم ترشيق الملاك الحكومي والوزاري ومراجعة سلم الرواتب والمنافع والنظام الضريبي، وفصل المؤسسات التشغيلية العامة عن الاجهزة الوزارية لتكون مسؤولة بضوابط التنفيذ الصارمة ومحكومة بمبادئ الجودة والكفاءة والانتاج، أو مواجهة التصفية وإحالة ملاكها الى التسريح في حال الفشل بشرط وضع برنامج تدريبي للكوادر المسرحة وتأهيلها للقطاع الخاص. أما الوزارات فيجب ان لا يتجاوز عددها أكثر من ١٥ وزارة بعد دمجها لتركز على توحيد الخطط الستراتيجية ورسم السياسات والاشراف على تنفيذ الشركات العامة والخاصة والعالمية، على المستوى الاتحادي والمحلي. كما يجب اصدار القوانين الاتحادية المُعَطَلة في اسرع وقت وعدم التعكز على المادة ١٣٠ من الدستور التي شرعنت سريان القوانين القديمة، لتكون التشريعات الجديدة القاعدة التي تستند اليها المؤسسات الاتحادية المُغَيَبَة، فبدونها، تبقى الدولة العراقية فيدرالية على الورق من الناحية الدستورية ومركزية المنهج من الناحية العملية.
لن اتطرق الى سُبل الغاء المحاصصة وضرورة اعتماد الكفاءات من قمة الهرم الى قاعدته، فهذه بديهية أخلاقية يجب ان لا تتلاعب بها الاحزاب السياسية. أما ملف الموازنات العامة فيجب مراجعته ووضع سقف للأبواب التشغيلية لا يتجاوز ٥٠٪ من كامل واردات الدولة لرفد الخدمات العامة، أما باقي الدخل فينقسم الى نصفين، الاول لتمويل مشاريع استثمارية تدر على الخزينة واردات خارج قطاع استخراج وانتاج النفط الخام، والثاني لتمويل صناديق استثمارية عالمية لتنويع مصادر الدخل وحفظ حقوق الاجيال.
ختاماً،على العراق ان يتدارك أمره قبل فوات الأوان في الخروج من أحادية الدخل وتنويع وارداته المالية من خلال انتهاج فلسفة اقتصادية جديدة. ان سلعة النفط خاضعة لتقلبات اسواق العرض والطلب على المدى القريب، وستواجه تحديات أكبر على المدى المتوسط والبعيد بسبب التغير الناجم في اساسيات اسواق الطاقة والتطور التكنولوجي. ان أغلب البلدان النفطية الغنية مثل دول مجلس التعاون الخليجي تعمل جاهدة على الخروج من أحادية الدخل قبل عام ٢٠٣٠ دون الانتظار الى مواجهة عصر ما بعد النفط. كل هذه التحديات وغيرها تُحَتم على الدولة العراقية ان تتعامل مع ملفات الاصلاح الاداري والاقتصادي وتطبيق دستور الدولة الاتحادية وتشريع القوانين المعطلة، بحزم وجدية قبل فوات الاوان.
* أكاديمي عراقي وزميل في جامعة كولومبيا، نيويورك

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top