الكونيّة علاجٌ للعُصاب الطائفي

آراء وأفكار 2015/04/11 12:01:00 ص

الكونيّة علاجٌ للعُصاب الطائفي

حسب فرويد ، ينشأ مرض العُصاب النفسي Psychological Neurosis نتيجة شعور "الأنا" بتهديد مستمر من "الآخر" فيعيش الفرد في قلقٍ دائم ، ينتهي بالجنون في أقسى حالات ذلك القلق. ليس بالضرورة أن يكون التهديد تهديداً جسدياً ، بل ربما يكون تهديد قيم وأفكار فحسب. الفرد الذي تربّى على قيمٍ عائلية معينة تراه يعاني عُصاباً ملازماً في مجتمع ينكر عليه قيمه تلك ويحاربها.
وحتى يواجه العُصابي هذا التهديد القيمي ، تجده يهاجم القيم الأخرى وينال منها. يركّز على كل شيء سيّئ في قيم "الآخر" ويُظهر عيوبها ، لكنه ينسى عيوب قيمه. يلتفت لنشر الجيّد منها فقط. هذا الصراع هو عُصاب نفسي يشتدّ باشتداد الاختلاف في القيم وابتعادها عن بعضها.

 

كلّما كان الاختلاف بين قيمه وقيم الآخرين كبيراً ، كان الفرد أشدّ عُصاباً وشراسة. 
أمام هذا الفرد طريقان لمواجهة هذه المعضلة القيميّة. إمّا أن يطلب من "الآخر" الكفّ عن نظرته العنصرية السيئة له ويعيشا معاً بأمان ، أو يبقى على نظرته السيئة تلك ، فيصطفّ الفرد المعني هو الآخر مع قيمه وأفكاره أيضاً. يدافع عنها ويهاجم قيم ذلك "الآخر" دائماً وأبداً. هذه هي شروط الصراع ،والقبول بها يعني القبول بالعيش في عُصاب اجتماعي للأبد.
سأستعير مفهوم العُصاب بوصفه مَرَضَاً نفسياً وأسقطه على الواقع الطائفي في العراق. إمّا أن يطلب "الشيعي" من "السنّي" الكفّ عن التجريح به وبطائفته ويعيشا معاً بسلام ، أو يبقى على عدائه فيُنهي "الشيعي" هو الآخر حياته مدافعاً عن طائفته ، مهاجماً طائفة "السنّي" للأبد. وحتى لا يُفهم من كلامي أن موقف "الشيعي" ردّ فعل على "السنّي" وندخل في سجالات الفعل وردّ الفعل (وهي ليست مناسبة المقالة طبعاً) أُعيد العبارة هكذا: إمّا أن يطلب "السنّي" من "الشيعي" الكفّ عن التجريح به وبطائفته ويعيشا معاً بسلام ، أو يبقى على عدائه فيُنهي "السنّي" هو الآخر حياته مدافعاً عن طائفته ، مهاجماً طائفة "الشيعي" للأبد. في كلتا الحالتين ، سيبقى كلٌ من "الشيعي والسنّي" أسيراً لعُصابٍ طائفيٍ طويل لن ينتهي أبداً. 
يقول المفكر والطبيب النفساني الفرنسي (النيجيري الأصل) فرانز فانون في كتابه "البشرة السوداء ، القناع الأبيض Black Skin White Mask" : كلما عَلِمْتُ أن العنصر الأسود هو رمزٌ للخطيئة ، قَبَضْتُ على نفسي متلبّساً بكره الأسود ، لكنني سرعان ما أتذكر أنني أنا أسود. هناك طريقتان للتخلّص من هذا الصراع. إمّا أن أطلب من "الآخرين" أن يتجاهلوا لون بشرتي ، أو أن ألفت نظرهم لها. عندما أريد لفت نظرهم لها ، سأحاول حينئذ إيجاد قيمٍ جميلة لهذا الشيء السيئ طالما اعترفت لاشعورياً بأن الأسود هو لون الشر. وحتى أتخلّص من هذا الوضع العُصابي ، الذي أُجْبِرْتُ فيه على اختيار حلٍّ شائكٍ غير صحي يستمد ديمومته من الأوهام والعدائية واللاإنسانية ، ليس أمامي سوى حلٍّ واحد هو أن أتعالى عن هذه الدراما السخيفة التي وضعني الآخرون فيها وأرفض التصنيفين غير المقبولين معاً لأصل أخيراً بإنسانيتي الى الكونيّة. انتهى كلام فانون. 
الدفاع عن طائفتنا وإظهار محاسنها قبول باللعبة التي فرضها علينا "الآخر" الطائفي. نسير لاشعورياً مع رغبته ونقول في لاوعينا أن طائفتنا سيئة ، وعليه نسعى جاهدين لإظهار محاسنها وقيمها الجميلة لنقول له ، ها هي ذا ليست سيئة. صدّقني أرجوك ، إنها ليست كذلك. 
لا أدري لماذا ننجر لشروط "الآخر" الطائفي؟ لماذا ندخل معركته أصلاً؟ لماذا نقبل العيش في هذا العُصاب الطائفي حيث لا حلّ فيه ولا نهاية؟ 
أفضل الحلول تلك التي نبَّهَنا لها فانون وهي الصعود الى الكون والتعالي على الطوائف حيث لا عُصاب يُقلق ولا صراع يُخيف. الكونيّة هي استيعاب الإنسان والترفّع عن التفصيلات الأخرى. 
لست أدعو للكونيّة كمذهبٍ فلسفيٍ أو طريقة تفكير محدّدة ، بل أستعير فحواها العام كعلاجٍ ممتاز للعُصاب الطائفي والاجتماعي الذي نعيشه اليوم في العراق وخارجه.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top