الحاجة إلى آباء مؤسسين (Founding Fathers)

آراء وأفكار 2016/05/19 12:01:00 ص

الحاجة إلى  آباء مؤسسين (Founding Fathers)

 شهد العراق بعد تحريره من الدكتاتورية معضلة تجاوز الماضي الشمولي بكل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والانتقال نحو دولة مدنية ديمقراطية متعافية من اثار الدمار النفسي والمادي الذي عانته البلاد طوال الحقبة الماضية. وعلى الرغم من وجود العديد من الانشطة السياسية التي انتقل بعضها من مرحلة الكفاح المسلح ضد الدكتاتورية الى مرحلة بناء الدولة، فأننا لم نستطع الانتقال الى مفهوم الدولة بمعناه الحديث المستند الى مؤسسات ثابتة ورصينة، ولم نفلح حتى في الاتفاق على "الدستور الدائم" للبلاد الذي بات مثار خلافات بنيوية كبرى تطفح على المشهد السياسي بين الفينة والاخرى الأمر الذي يقود الى تعطيل عملية بناء الدولة لا محالة.

ومع ان منطقة الشرق الأوسط شهدت تغييرات جوهرية جاءت نتيجة لتراجع الأيديولوجية الشمولية والأنظمة الفردية المستندة الى الحكم المطلق، فلازلنا في العراق نرى ان عقلية التردد في تبني التغيير هي السائدة لدى مجمل القوى السياسية والاجتماعية العراقية واصرارها على الاستمرار في التعاطي مع هذه المتغيرات اعتمادا على آليات عقيمة متوارثة من الماضي الشمولي وهي ولا شك عصية على الانسجام مع الواقع على مستوى العراق أو العالم،.

كنا نتوقع ان يحمل التغيير في العراق رعيلاً من (آباء مؤسسين) ليكونوا كما في الامم الاخرى حملة مشاعل التأسيس المدني، يقودون البلاد صوب الرفعة والازدهار والنماء، لتصبح إنجازاتهم مثابات راسخة في تاريخ تنمية البلاد ورفاهية الإنسان العراقي.

ان غياب هذه المجموعة (الاباء المؤسسون)، ربما لم يكن بإرادتهم وانما كان بسبب ثقافة التدافع على المغانم والمكاسب سواء كانت على مستوى الطائفة او القومية او على المستوى الشخصي، فكانت النتيجة خسارة شاملة على المستوى الستراتيجي. ولو اردنا المقارنة مع مجتمع آخر فان الآباء المؤسسين للولايات المتحدة كانوا هم القادة السياسيون الذين وقعوا على إعلان الاستقلال في العام 1776 أو الذين شاركوا في الثورة الأميركية ونيل الاستقلال عن المملكة المتحدة، ومنهم ايضا من ساهم في صياغة دستور الولايات المتحدة في 1787- 1788، ومنهم من ساهم في بناء حكومة جديدة بموجب الدستور. وقد حدث شيء مشابه في العراق لكن الفارق ان الاميرييين استمعوا جيدا الى هؤلاء الآباء بينما استمع العراقيون الى دمى سياسية وتركوا طبقة قليلة من الحكماء في هذا البلد لأسباب اولها الجهل وليس آخرها غياب منظومة أخلاقية رادعة بتوفر ثروة النفط التي استخدمتها الطبقة السياسية كرشوة لشعب أدمن الكسل.

يقول توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين لأميركا (1788): ((التقدم الطبيعي للأمور هو أن تسفر الحرية عن حكومة قادرة على القيام على أرض الواقع))، ولعل هذا ما نفتقده في فوضى المرحلة التي اعقبت التغيير في العراق بعد 2003.

لقد ساهم وجود النفط في ادامة ثقافة الكسل والاعتماد على ابوية الدولة، مما زاد من عمر سيطرة طبقة غير مؤهلة على السلطة في العراق اعتمدت في بقائها على استخدام ثروة النفط كرشى انتخابية لغالبية غير واعية من الشعب حيث مثلت هذه الثروة الريعية الى جانب غياب الوعي وعدم اكتراث الاغلبية، السبب الرئيس في ايقاف عجلة التنمية بشكل تام مما جعل البلاد امام مستقبل مجهول في حالة تحقق افتراض تراجع اسعار السوق (تذبذب اسعار النفط مسألة معتادة لو راجعنا تاريخ اسعار النفط)، وقد يؤدي الى انهيار كامل للدولة العراقية حيث تتجلى بوضوح ثنائية النفط والديمقراطية المستحيلة، حيث ينحصر دور الدولة العراقية الاقتصادي والاجتماعي في تخصيص الموارد أو توزيع إيرادات النفط، ويظهر هذا الدور بجلاء في سياسة الإنفاق الحكومي الموسع لإيرادات النفط التي تزدهر في فترات انتعاش الطلب العالمي عليه وارتفاع الأسعار وبذلك يصبح الإنفاق هدفا بحد ذاته وتبقى الدولة مختبئة خلف بيانات مخادعة عن النمو، فلا ريب أن النفط يساهم بقسط وافر في تحقيق النمو، إلا أن النمو المحقق بواسطته في الغالب هو نمو "سرطاني" ينشط في تعطيل الدولة على حساب الحريات الفردية، يضاف الى ان هذا النمو المعلن لا يشمل اغلب فئات المجتمع.

تكمن جدلية (النفط والديمقراطية) في ان الناس يُستدرجون بشكل طبيعي للتعبير عن مواقفهم حسب مصالحهم الاقتصادية حيث تتجسد العلاقة الطردية ما بين الاعتماد الكلي للدولة في إيراداتها على النفط وضعف القاعدة الاقتصادية التي تجمع الأفراد للمطالبة بحقوقهم السياسية ، فمن لا يساهم في الدخل ليس له الحق في اتخاذ القرار والمشاركة السياسية الفعلية ، فتتحول الغالبية العظمى من المجتمع الى مجرد أتباع لحاكم او حزب معين ورعايا يسعون وراء منافع فئوية وشخصية تتأثر بما تقوم به الدولة من إعادة تدوير العائد النفطي على هيئة إنفاق حكومي موسع هدفه الأساسي تكريس الوضع القائم والحفاظ على نقطة الاستقرار الحالية، بينما الدولة الديمقراطية تعتمد على تنويع الاقتصاد في دالة التنمية الذي يعني اعتماد الدولة في إيراداتها بشكل رئيسي على الضرائب، ومعروف أنه "لا ضريبة بلا تمثيل" إذ كلما اعتمدت الدولة اعتمادا جوهريا على الضرائب أصبحت الديمقراطية مسألة جوهرية لابد منها.

ما يمنع الاقتصاد العراقي أن يتحول إلى اقتصاد إنتاج متنوع هو أن الحكومات المتعاقبة في العراق اختزلت عن قصد أو غير قصد، السياسات الاقتصادية إلى مجرد ميزانيات سنوية متتابعة لتوزيع إيرادات النفط، وإعادة تدويرها في شكل إنفاق موسع على البنية التحتية والقطاع العمومي والخدمات من أجل تحقيق نمو لا ينعكس بالضرورة في صورة توزيع عادل للثروة، الذي يشكل الى جانب تأثيره السلبي على فئات كبيرة وتهديده للاستقرار الاجتماعي والسياسي والسلم الاهلي، فأنه ليس حافزا كافيا لتلاحم الناس وتوحد الجماهير ومحاولتهم إحداث تغييرات سياسية، وحتى إن حدث حراك اجتماعي من بعض القطاعات الشعبية مطالبا بالعدالة في التوزيع فإنه سرعان ما يتم استيعابه واحتواؤه بسهولة بتوجيه مزيد من الموارد لإسكات مثيريه فتقوم الطبقة الحاكمة بإعطاء المنافع والامتيازات لكل فئة أو جماعة بحسب ثقلها النسبي في التكوين السياسي والاجتماعي وكذلك حسب قدرتها على تهديد الاستقرار القائم. وبمعنى آخر، إذا ما تزايد وزن أو تأثير فئة معينة فإن الدولة تعمد إلى رفع نصيب تلك الفئة من المنافع النفطية، وبهذا يُختصر النقاش والعمل السياسي برمّتهما في الحديث عن عدالة التوزيع، أما الحل بالنسبة للفرد الذي يشعر بقلة مكاسبه فلا يجد سوى المناورة للفوز بمغانم شخصية ضمن الوضع القائم، وفي المحصلة يفضل هذا الطريق على التجمع مع الآخرين للمطالبة بحق مشترك، لاعتقاده بأن مساهمته أو مساهمة جماعته في تكوين دخل البلد قابلة للاستغناء عنها، ولا تشكل أهمية اقتصادية كبرى لذا نرى فئات معينة تحصل على نصيب من الناتج دون أن يكون لها إسهام أو مسؤولية خاصة في تحقيق هذا الناتج (ينفصل العائد عن الجهد المبذول). ويمكن القول إن معظم الثروات الخاصة الفردية لم تتكون بعيدا عن ممارسات السلطات العامة في مجال سياسة الإنفاق، وقد يكون البحث في هذا الإطار عن الأسباب العميقة للفساد في العراق المتربع بامتياز على لائحة الدول الاكثر فسادا في العالم.

في هكذا وضع تسقط أي دوافع اقتصادية حقيقية لدى الفرد والجماعة للتحرك من أجل المطالبة بإقامة ديمقراطية تمثيلية، ولا يبقى سوى بعض الأفكار والشعارات التي تحرك الناس لكنها سرعان ما تنتهي إلى الفشل الذريع نتيجة هشاشة القاعدة التي تستند عليها ومحدوديتها. وقد يكون من المفيد القول أن كل هذا التركيز على ضرورة وجود اقتصاد متنوع وحر كأساس يساعد على إقامة ديمقراطية حقيقية لا يعني أن دول الإنتاج ذات الاقتصاديات غير الريعية هي دول تشهد حالة من الازدهار الديمقراطي، ولكنها الأقدر على التحول نحو الوضع الديمقراطي من البلدان النفطية.

إن وجود البترول في أي بلد هو مورد وثروة وميزة مهمة للبلد، غير أن النظرة إليه وسبل التصرف فيه هي ما يجعله يصبح عبئا ثقيلا على السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلى المسار العام للدولة ومكوناتها المختلفة، بل وعلى المنطقة بأكملها وهذا ما يحصل في العراق بشكل واضح ، لذا فان مستقبل الديمقراطية الناشئة يرتبط بصورة مباشره بكيفية تفكيك النظام الريعي وتحويل الدولة من جمعية خيرية الى دولة مشاركة المواطنين في التنمية الشاملة ، أي تحول الناس من رعايا الى مواطنين.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top