| الحلقة الرابعة |
علــي حســـين
ما من مجتمع يمكنه أن يزدهر ويُسعد حقاً، إذا كان القسم الأعظم من أفراده فقراء تعساء، والواجب هو حماية كل فرد من أفراد المجتمع من ظلم أي فرد آخر"
آدم سميث
قالت مارغريت دوغلاس والتي كانت حاملاً لجارتها :"يبدو أن هذا الطفل سيكون شؤماً على العائلة، فقد توفى والده في اليوم التالي الذي أخبرته فيه بحملي، وماتت والدتي بعد سماعها خبر الحمل بخمسة أيام، وأخاف أن أموت وأنا أولده، ولهذا سأسعى للتخلص منه"، كان زوجها المحامي ومسؤول الكمارك السابق قد توفي في كانون الثاني عام 1723 ، ولم تكن المرأة تدرك أن ابنها سيُحدِث ثورة في العالم، وإنه سيصبح أشبه بمعول يهدم كل ما قيل قبله عن الاقتصاد والعدالة الاجتماعية.
ولد آدم سميث في الخامس من حزيران عام 1723،، أصرّت أمّه على تسجيل اسمه في سجلات المدينة باسم أبيه"آدم سميث"، لا نعلم إلا القليل عن طفولته، فكاتب سيرته جيمس بوكان، يخبرنا بأن أدم سميث كان بطيئاً في الفهم مما اضطر أمه أن تستشير عمها الكاهن الذي أوصى أن يأخذ دروساً في الكنيسة، ومن الأحداث المهمة التي أثرت على حياته، إنه تعرض للخطف وهو في سن الثالثة على يد مجموعة من الغجر، وبقي عندهم فترة من الزمن حتى تمكن خاله أن يعيده الى أمه، بعد أن تعلم القراءة في الكنيسة دخل المدرسة ولاحظ المعلمون إنه لايرغب في الدروس بقدر شغفه لقضاء وقت أطول في المكتبة، دخل جامعة أكسفورد من خلال منحة دراسية، وخلال سنوات الجامعة تمكن من دراسة النصوص الكلاسيكية في الأدب والفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع، لكنه فجأة يترك الجامعة ليتفرغ للكتابة والقراءة وبفضل الصلات التي تربطه بالفيلسوف الانكليزي فرانسيس هاتشون الذي درس على يديه في الجامعة، استطاع أن يحصل على وظيفة محاضر في الأدب وفلسفة القانون، وقد حظت محاضراته باهتمام ومهّدت الطريق للإنتقال الى حياة مهنية جديدة، ففي عام 1751 عاد للجامعة لإكمال دراسته ليعين بعدها أستاذاً للمنطق وفلسفة الأخلاق والبلاغة في جامعة جلاسكو. وفي تلك الفترة انتشرت أفكاره حول علاقة الاقتصاد بالأخلاق بعد أن نشر كتابه الأول"نظرية المشاعر الأخلاقية.
عندما نشر سميث كتابه هذا عام 1759، كان في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان يريد من خلال كتابه هذا أن يبين لنا إن أفكارنا وأفعالنا الأخلاقية ليست إلا نتاجاً لطبيعتنا باعتبارنا كائنات اجتماعية، وفي الكتاب يحدّد آدم سميث القواعد الأساسية للإهتمام بالنفس والعدل اللذين يحتاجهما المجتمع للبقاء، ويشرح الأفعال الأضافية الخيرية التي تمكنه من الإزدهار حيث يرى إننا جميعاً نهتم بمصالحنا الشخصية، لكن مطلوب منا أيضاً أن نعرف كيفية العيش مع الآخرين دون الإضرار بهم، لأن هذا هو الحد الأدنى الضروري لبقاء المجتمع، وفي قضية العدل يرى سميث إننا إذا أردنا بقاء المجتمع، فلا بد أن تكون هناك قواعد للحيلولة دون إيذاء أفراده بعضهم بعضاً، ويتمثل العدل ضمن مفهوم سميث في الكيفية التي يدافع بها المجتمع عن نفسه ضد أي ضرر، وفي موقفه من الثروة نجد إن آراء سميث ربما تصدم الذين يعتقدون إنه منظر للرأسمالية، فهو يؤكد إن وسائل الراحة المادية التي يمكن شراؤها بالمال ما هي إلا تفاهات، فليس بمقدور الغني أن يتناول من الطعام مقدار ما يتجاوز قدرة الآخرين على الأكل، وربما ينعم العامل في كوخه بنوم أهنأ من نوم الملك في قصره العظيم. فالثروة تعجز عن انقاذنا من الشعور بالخوف أو الحزن أو الموت، بعدها يحدد سميث طبيعة الانسان الفاضل، فهو يرى إن هذا الشخص يجسد صفات: الاهتمام بالنفس والعدل وعمل الخير وهناك أيضاً صفة رابعة هي صفة ضبط النفس. بعد سبعة عشر عاماً وبالتحديد عام 1776، يكتب سميث في مؤلفه الضخم ثروة الأمم:"إذا زال العدل، فلا شك إن النسيج العظيم الهائل للمجتمع البشري.. سيتفتت إلى ذرات في لحظة واحدة".
********
العقل والتقدم
كان عصر التنوير في بداية القرن الثامن عشر ذا صلة بتغيرات اجتماعية وبتقدم علمي، فقد سبق أن تأسست جمعيات علمية مهمة، مثل الجمعية الملكية في بريطانيا قبل منتصف القرن السابع عشر، كما ظهرت إلى الوجود، في الوقت ذاته مجلات ومطبوعات علمية، وكتب تعزز ثقافة التنوير.حيث نُشرت جميع مظاهر المعرفة في ذلك الوقت مثل دائرة المعارف الفرنسية أو ما سميت بالموسوعة"التي لعبت دوراً كبيراً في الحراك الفكري في فرنسا، وتعد الموسوعة أعظم ما تميز به عصر التنوير، ظهر المجلد الأول منها عام 1751 واستغرق العمل بها عشرين عاماً، واشتملت على 27000 مادة في كافة فروع المعرفة، كان جان لورن دالمبير المولود عام 1717 ويعد من أشهر علماء الرياضيات آنذاك هو الذي أطلق شرارة الموسوعة التي عمل فيها معه دينيس ديدرو الذي جمع حوله مجموعة من أبرز فلاسفة التنوير آنذاك أمثال فولتير ومونتسكيو وروسو وشارل دي كلوز وهولباخ. في مقاله الافتتاحي أعلن دالمبير إن الموسوعة ستقدم للقراء نظرة شاملة لكل فروع المعرفة المختلفة، وعلاقة الواحد منها بالآخر على شكل شجرة أنساب مثلما سعى فرنسيس بيكون الذي أكد إن الأفرع المختلفة من المعرفة ترتبط ارتباطا مباشراً بملكات الذهن المختلفة، ويقدم دالمبير قائمة سيطلق عليها اسم"عظماء التاريخ"لاتضم اسماء ملوك أو قادة، بل علماء وفلاسفة من أمثال"هارفي وغاليلو وبسكال وبوفون ومونتسكيو ونيوتن وفولتير ورسو، وفي المقال نجد دالمبير يستخدم عبارات مثل، كسر الاغلال، تمزيق النقاب، اقتحام الحصون :"على الفلاسفة القيام بدور بطولي، وسواء أكانوا مضطهدين أم محتقرين فهم يقاتلون بمفردهم ويناضلون من أجل الاجيال القادمة الذين سوف يعترفون لهم بالفضل الذي حرمهم منه معاصروهم"، ولعل إحدى الطرق التي مارست من خلالها الموسوعة تأثيرها العظيم على المجتمع، إنها لم تناقش موضوعات العلوم والفلسفة والأدب والفنون، وإنما أفردت فصولاً خاصة للحرف ومهارات العمال، وكانت بذلك أول كتاب يصف هذه الصناعات ومدى فائدتها للإنسان..يكتب ول ديورانت في قصة الحضارة :"كان العقل المنظِم للموسوعة هو دينيس ديدرو (1713-1784) ابن صانع السكاكين الذي جمع أعظم العقول في عصره لخلق أعظم انتاج تميز به عصر التنوير وهو الموسوعة".
لعبت الصالونات الأدبية التي أنشأتها بعض النسوة مثل مدام دي فند، ومدام جيوفرين ومدام نيكر، ومدام دي إسبيانس دوراً كبيراً في انتشار الموسوعة من خلال النقاشات التي كانت تتم في هذه الصالونات حيث يختلط الأدب بالسياسة والفلسفة والفنون، وكان لصالون مدام جيوفرين الأهمية الكبرى حيث اجتمعت فيه النواة الأولى لمؤسسي الموسوعة، وقد لعبن بعض السيدات دوراً كبيراً في انتشار أفكار التنوير، فمدام دي إبيناني كانت امرأة شديدة الحيوية برغم ضآلة جسمها، وقد سحرت أحاديثها فولتير وديدرو، وفتنت جان جاك روسو، وقد اسهمت في الموسوعة من خلال عدد من المقالات التي تناولت فيها المسرح والاقتصاد والفلسفة، وقد جمعت مقالاتها فيما بعد في كتاب كتب له المقدمة ديدرو، فيما عملت الماركيزة إمبلي دي شاتليه التي ارتبطت بصداقة طويلة مع فولتير على ترجمة بعض أعمال نيوتن الى الفرنسية، وقد درست فلسفة ليبنتز وأصدرت كتاباً تعرض فيها وجهة نظرها في هذا الفيلسوف الإنكليزي، وعندما توفيت كتب فولتير في رثائها :"لقد فقدن من ظلّت صديقة لي طيلة خمسة وعشرين عاماً.رجل عظيم، عيبه الوحيد إنه كان امرأة"..وقد استطاعت هذه الصالونات أن تمنح ثقة متيقظة في العقل وفي الإنسان، وتمّ إعلان مذهب مدني، حل فيه العقل محل الانجيل وبعون من العقل صار بإمكان الإنسان أن يكشف الجوهر الداخلي للواقع ويحقق التقدم المادي، وسيستقل الإنسان تدريجياً، ويستغني عن السلطة التي لا أساس لها، وعن وصاية الكنيسة.لقد تحرر الفكر لأن الإنسان شعر إنه حاكم نفسه، وإنه مستقل عن التقاليد والكنيسة.لقد أعلن فلاسفة التنوير إن الإنسان خيرٌ بالطبيعة.وإن غاية الإنسان في هذا العالم هي السعادة وليس النعيم في العالم الآخر.ويمكن للإنسان أن يحقق غاياته بالعلم حيث رفع فلاسفة التنوير شعار"المعرفة قوة"، وإن أعظم العقبات التي تقف في طريق الإنسان لتحقيق السعادة والمعرفة هي ثالوث الجهل والخرافة والتعصب.وقد صاغ فلاسفة التنوير عدداً من النقاط التي ستساعد على تقدم العالم الى الأمام :
1- العقل في حوزة الجميع وليس حكراً على فئة من الناس
2- القانون الطبيعي يضمن حقوق الأفراد ضد امتيازات القلة وضد الاستبداد
3- النظرية الأخلاقية عند الفلاسفة يجب أن تساعد الإنسان على أن ينشد الأفضل دوماً
4- يجب أن يكون هناك انسجام بين المصالح الشخصية، فصراعنا لمصلحتنا يجب أن يسهم في سعادة كل إنسان
5- الدولة المثالية تؤمن حقوق الملكية والحرية الفردية.
********
ظهور المجتمع المدني
كان آدم سميث أول من صاغ الفهم الجديد للمجتمع المدني بصورة دقيقة، ولعل سعيه الى دمج النشاط الاقتصادي وعمليات التسوق في فهم تشريح الحياة المتمدِنة مَعلم مهم في مسار تطور فكر التنوير، فعمله الذي انصرف الى ملاحظة انحلال الرأسمالية التجارية واتساع الأسواق، والظهور المبكر للانتاج الصناعي الضخم، كان قفزة نوعية قياساً الى أعمال أسلافه ومعاصريه، فكتابه"ثروة الأمم، وهو أحد النصوص الكلاسيكية للاقتصاد والفلسفة السياسية، قد نشر في العام 1776 ويقع في صلب النظريات الحديثة للمجتمع المدني، إضافة الى أنه قدّم لنا في هذا الكتاب، نظريته الأساسية في الاقتصاد والتي لخصها بنقطتين اساسيتين يؤكد في الأولى إننا لا نعيش في المجتمع بفضل كرم القصاب أو الخبّاز، أو المزارع حتى وإن كان هؤلاء يوفرون لنا الطعام الذي نعيش من خلاله، بل إننا نعيش بفضل نظرة هؤلاء إلى مصالحهم الخاصة، تماماً كما إننا نحن بدورنا لا نقدّم الخدمات التي توفرها مهننا للآخرين إلا بالنظر إلى مصالحنا المرتجاة من تلك الخدمات سواء كانت مادية أو غير ذلك،. ويقول سميث"نحن عندما نسعى إلى الحصول على خدمات الآخرين من أصحاب المصالح والمهن، كما عندما نقدّم خدماتنا إلى الآخرين، لا نتوجه إلى ما لديهم من حس إنساني، بل لإدراكهم مصالحهم الشخصية. وبالتالي، فإننا حين نسعى للحصول على إنتاجهم، لا نخاطبهم انطلاقاً من رغبتنا في أن يتفهموا حاجاتنا، بل انطلاقاً من توجهنا إلى مصالحهم الشخصية". أما التأكيد الثاني فهو ذاك الذي يقول إن الفرد:"في سعيه إلى تحقيق مصالحه الخاصة، غالباً ما يحقق مصالح الجماعة في شكل أكثر فاعلية ما يمكنه أن يفعل حين يعمل باسم المصلحة العامة. وأنا (آدم سميث) لم أصادف في حياتي أي عمل خيري من لدن أولئك الذين لا يكفون عن الإعلان بأنهم إنما يعلمون من أجل المصلحة العامة".
والحقيقة إن آدم سميث وهو يقدم لنا أفكاره عن الاقتصاد في هذا الكتاب الضخم أراد أن يؤكد مفهوماً واحداً، هو أن العمل هو الأصل وهو الذي يؤدي الى تراكم الثروات وازدهار الأمم.
لقد كان منجز آدم سميث المهم هو ربط تقسيم العمل بالأسواق، ووضعه في قلب المجتمع المدني، فما يتمخض من تقدم مادي وأخلاقي كان يعني :"إن العامل، حتى إن كان من منزلة دنيا وفقيرة، يتمتع، أن كان مقتصدا وكدوداً بحصة من ضروريات الحياة ووسائل الراحة على نحو أكثر مما يحصل عليه أي أنسان بدائي، فالأسواق المستندة الى تقسيم العمل تتيح للأفراد أن يضاعفوا مهاراتهم الخاصة وينظموا اعتمادهم المتبادل، حيث يرى سميث إن المجتمع المدني عبارة عن شبكة من الاعتماد المتبادل تنظمها السوق، وإن ما تنقله هذه الشبكة من عمل يقتضي معنى حديثاً للحرية الفردية، ينبغي أن لاتكون هناك تقييدات اعتباطية تحول دون أن يزاول أي فرد ما يختاره من عمل :"إن ملكية كل فرد لعمله الخاص، باعتبارها الأساس الأصلي لكل ملكية أخرى، مقدسة ومحرمة على أي انتهاك، ويكمن ميراث الفقير في يديه وبراعتهما، وإن منعه من استخدام قوته وبراعته بالطريقة التي يعتقد إنها مناسبة دون إلحاق الحيف بجاره، هو انتهاك سافر لهذه الملكية بالغة القداسة، إنه اعتداء صارخ على الحرية العادلة لكل من العامل واولئك الذي يعتزمون استخدامه".
والآن فإن المجتمهع المدني الذي يشكله تقسيم العمل وتنظمه الأسواق يحيل التبادلات الطوعية بين الأفراد الأحرار إلى جوهر حياة متحضرة كلياً. يصرّ آدم سميث الذي رفض الطبقات الاجتماعية القديمة التي تتكون من ملاك الأراضي والرأسماليين والأجراء، إن هذه الطبقات يجب أن تختفي ويحل محلها طبقات اجتماعية جديدة ومتميزة تنظمها الزراعة والأسواق والتجارة والصناعة، فعناصر الانتاج الثلاثة تشكل المجتمع المدني وهي الأرض والعمل ورأس المال تؤدي الى ثلاثة أشكال من المكافاة : الريع والأجور، والأرباح. وإذا كان توماس هوبز قد شخّص الرغبة الإنسانية بوصفها محرك النشاط الاقتصادي والحراك الاجتماعي، فإن آدم سميث كان أول من قدّم تفسيراً دقيقاً لذلك :"إن تقسيم العمل الذي تُستمد منه فوائد كثيرة، لم يكن نتيجة حكمة إنسانية، حكمة تتنبأ وتقصد الوفرة العامة التي تحدثها، انها نتيجة ضرورية، وإن كانت بطيئة وتدريجية، لنزوع معين في الطبيعة الإنسانية التي لم يكن في وارد منظريها أي منفعة واسعة كهذه، بل هي إلى التعامل، ومبادلة شيء بشيء آخر".
لم يكن سميث أكثر صراحة في أي موضع آخر من كتاب"ثروة الامم"والذي يتعلق في موضوعة عدم المساواة في المساومة بين أصحاب العمل والعمال، وفي معارضته لفكرة المتاجرة القاتلة بأن الأجور المنخفضة تجبر العمال على أن يعملوا أكثر، وبذا يزيدون في رخاء انكلترا، فيبدي ملاحظته على النقطة الأولى قائلاً:"يرغب العمال في الحصول على أكثر ما يمكن، ويرغب السادة في إعطاء أقل ما يمكن.. فوطّد العمال العزم على الاتحاد ليرفعوا أجور العمل واتحد أصحاب العمال ليخفضوها.
بعد ذلك ينتقل سميث من قضايا العمل الى الدفاع عن إصلاح قضايا الأرض، وهنا أيضاً يرى أن القوانين غير الملائمة تقف في طريق التقدم، فمعظم الأراضي البريطانية في القرن الثامن عشر، كانت خاضعة للوصاية، بوسع مالك الأرض أن يصدر قواعد لتقسيم أرضه ويبيعها، يلتزم بها ورثته لعدة قرون بعد موته، ومن العادات القديمة الأخرى، حق الابن الأكبر في جميع الميراث عن والديه، وهذه عادة اقطاعية تمنع تفتيت الملكيات الكبيرة، فبهذا القانون يكون الابن الأكبر هو الوراث الوحيد، وقد علق سميث على هذا بقوله:"لاشيء يمكن أن يضر بصالح أية أسرة كبيرة، إلا ذلك الحق، الذي فيه يغنى فرد واحد، ويسوق بقية الأولاد الى فقر يودي بهم الى مد أيديهم للسؤال"، وعلى هذا، أحث بالحاح على حرية الاتجارفي الأراضي بالغاء قوانين التوصية، وقانون حق الابن الأكبر في الميراث، وغير هذه من قيود نقلية ملكية الأراضي بالهبة أو بالوصية أو بالبيع.
إن أشهر قَسم في كتاب"ثروة الأمم"هو الجزء الذي يتدث فيه عن أنظمة الاقتصاد السياسي، حيث تناول سميث نظامين مختلفين، نظام التجارة ونظام الزراعة، وشغل موضوع التجارة مكاناً يبلغ ثماني مرّات ما شغله الكلام عن الزراعة. فتناول مبادئ"حرية العمل"التي اقترنت باسمه منذ ذلك الوقت، وقد انتهت المناقشة الخاصة بكل من العمل والأراضي والسلع والنقود والأسعار والزراعة والماشية والضرائب الى نقطة واحدة هي حرية التجارة داخلياً وخارجياً، لن تحصل الأمة على التقدم الكامل والرخاء إلا عن طريق التجارة غير المقيدة، في الداخل وفي الخارج، ناشد سميث الأمم إلغاء الرسوم الجمركية والتبرعات والتحريم من النظام التجاري، والاحتكارات التجارية للشركات المتعهدة، فكل هذه القيود تعوق النمو الطبيعي للصناعة والتجارة وحرية وصول السلع الى المستهلكين كما ترك المبدأ الزائف، مبدأ التوازن التجاري، الذي يحبذه التجار، ليست النقود سوى أداة وليس هناك مقياس يمكننا بواسطته معرفة على أي جانب يقع ما يسمى بالتوازن التجاري بين دولتين أو أي منهما تصدّر بأكبر قيمة.... ليست الثروة في النقود ولا في الذهب ولا في الفضة، وإنما فيما تشتريه النقود ويستحق الشراء فعلاً".
ولهذا يصر آدم سميث على تان تقسيم العمل ضروري بين الأمم كما هو بين الأفراد.
يكتب الانكليزي هارولد لاسكي :"ربما لايوجد أي مؤلف كان له، في عصره، مثل ذلك الأثر العميق على كل من الفكر العلمي الاقتصادي وعلى العمل الإداري، على حد سواه، وهناك أسباب قوية في أنه مايزال له هذا الأثر".
الفيلسوف شارد الذهن
كان آدم سميث صاحب صوت غليظ أجش.كان فيلسوفاً متوحداً شارد الذهن. وكانت حياته وحدة من الغموض والفوضى الشاملة. الكتب والأوراق مكدسة في كل مكان في مكتبه.ومنذ طفولته كانت لديه عادة الحديث مع نفسه، ويبتسم مُغرقاً في حوارات مع رفقة غير مرئية، وتكثر القصص الغريبة عن حياته، فمرة يسقط في حفرة دباغة الجلود بينما كان يتحاور مع صديق، وذات صباح وضع الخبز والزبد في إبريق الشاي، ثم تذوّق الشاي بعدها ليقول إنه أسوأ فنجان شاي تذوقه في حياته، ومرّة خرج للمشي بملابس النوم مستغرقاً في أحلام اليقظة مُنتبهاً بعد عدة أميال خارج المدينة، وقد صرح صديقه ديفيد هيوم إنه كان أكثر من عرفهم في حياته شروداً".
“وهكذا انتهيت من هذا القسط من التعليم الذي يمس المعرفة المدنية، وبهذه المعرفة المدنية ختمت الفلسفة الإنسانية، وبهذه الفلسفة الإنسانية، انتهيت من الفلسفة بصفة عامة، والآن وقد توقفت قليلاً، أنظر الى الوراء، إلى ما مرّرت به أو تصفحته، فإنه يبدو لي، قدر ما يستطيع الإنسان أن يحكم على نفسه، إن هذه الكتابة ليست أفضل كثيراً من الصخب أو الصوت الذي يحدثه الموسيقيون عند ضبط آلاتهم، مما لايطرب الإنسان لسماعه، ومع ذلك فأن هذا الضبط سبب في حلاوة الموسيقى فيما بعد. وكذلك أنا أقنعت آلات الوحي والتأمل حتى يكون العزف أفضل والأيدي أقدر. وحقاً إني أضع أمامي حالة هذه الأزمان التي قامت فيها المعرفة بزيارتها أو جولتها الثالثة، بكل خصائصها، مثل تفوق عباقرة هذا الزمان وحيويتهم، والمساعدات والأنوار التي حصلنا عليها من أعمال الكتّاب القدامى، وفن الطباعة الذي ينقل الكتب إلى كل الناس من جميع المستويات، وانفتاح العالم بفضل الملاحة التي كشفت النقاب عن تحارب لاحصر لها، وعن قدر كبير من التاريخ الطبيعي..أقول حقاً إني أزاء هذا كله لا أملك أن أصل إلى الإقناع بأن هذه الحقبة الثالثة من الزمن تفوق كثيراً عهد المعرفة اليونانية والرومانية.أما عن جهودي وأعمالي، إذا كان ثمة جهود وأعمال لي، فإنه إذا عنى الإنسان أن يسر نفسه أو يسر الآخرين بالانتقاص من قيمتها أو نقدها، فإنها ستعود الى المطلب القديم المتسم بالصبر والجلد (اضربني إذا ما أردت، ولكن اسمعني فقط) فلينتقد الناس وليقرعوا ما شاءوا، فإنهم بذلك سوف يلاحظون ويقدرون".
الديك روبين من كتاب"عصر العقل"