TOP

جريدة المدى > عام > وجوه الحب الثلاثون..الحب سعي محموم نحو أمل يأتي أو لا يأتي

وجوه الحب الثلاثون..الحب سعي محموم نحو أمل يأتي أو لا يأتي

نشر في: 9 إبريل, 2017: 12:01 م

|    2    |
 
" ولِدَ الانسان وهو يتوق الى الحُب "  ، بهذه العبارة استطاع رجل سويسري ولد عام 1712 لعائلة فقيرة ، أن يصبح استاذاً في فن الحب ، كان جان جاك روسو في السادسة والاربعين من عمره ، حين كتب روايته الو

|    2    |

 

" ولِدَ الانسان وهو يتوق الى الحُب "  ، بهذه العبارة استطاع رجل سويسري ولد عام 1712 لعائلة فقيرة ، أن يصبح استاذاً في فن الحب ، كان جان جاك روسو في السادسة والاربعين من عمره ، حين كتب روايته الوحيدة  ، ولم تظهر الا بعد ثلاث سنوات في شباط من عام  1761 باسم "جولي أو هلويز الجديدة، كانت جولي بطلة الرواية ، شابة مثالية ، تقع في حب معلمها الخاص وحين تختلي بنفسها تكتب : "  لقد جعلت السماء أحدنا للآخر ، لم يكن هناك اتحاد اكثر مثالية من هذا ، روحانا متداخلتان أيضا بشكل وثيق ، ولم يعد بوسعهما الانفصال أبداً " .

الحب والجمال
يقع الأستاذ في حب تلميذته  الجميلة ، ويقرر ان يفاتحها بأشواقه فيرسل اليها خطاباً ،  لا يطلب به شيئا سوى ان يقول لها ان جمالها سيطر على مشاعره :" ولِمَ لا أفرض ان قلبينا  ينبضان بعاطفة واحدة ، كما يخيل ألي ، انه ليحدث احيانا ان تلتقي أعيننا فجأة ، فتفضح التأوهات مشاعرنا ، وتنهمر من مآقينا الدموع ، ياحبيبتي جوليا لو لم يكن اتحاد روحينا إلهاماً ، لو لم تكن السماء اعدت كلينا للآخر ، دون ان يحوجنا الامر الى الفرار " .ويقرر الاستاذ ان يتقدم للزواج من تلميذته ،  الا ان  والدها الارستقراطي ، يحرم عليها الزواج من رجل من العامة ، مصراً على ان تتزوج بدلا عنه من وولمر الغني ، وتوافق جولي بالرغم من حبها لسانت برو ، ويصر المعلم ان لا يفارقها ويسعى لان يصبح معلماً لأطفالها ، وقد علق القراء على تصرف جولي بانه تصرف منافق وعديم الشرف ، اذ كيف تتخلى عن الرجل الذي عشقها من اجل آخر اكثر غنى ، لكن الأمر بحسب روسو كان محاولة لمزج  تخيلات الرغبة مع براءة الحب ، وعلى الرغم من ان الرواية تنتهي نهاية مأساوية حيث نجد جولي على فراش الموت  تقول   تقول  لحبيبها الاول وهي تحتضر  :" ان الخطوة الاولى نحو الرذيلة ، هي أخفاء التصرفات البريئة في ذاتها ! وليكن شعارك دائما ، ان لا تقول أو تفعل شيئا تجد غضاضة في أن يسمعه الناس جميعاً او يروه  " وعندما تصدر الرواية  تصبح   الاكثر مبيعاً  وتُكسب روسو شهرة عالمية ، وتعمل  على تغيير مفهوم الحب ، حيث اعتبرت جولي امراة مثالية  وقدوة للنساء ، وهي ترتعش باصدق العواطف المتحررة ، واصبحت الرواية حديث المجتمع الاوروبي ، من السويد مرورا بباريس  وصالونات انكلترا الادبية ، كان الجميع يتحسر على حب جولي ، فيما الفتيات المراهقات تنتابهن  نوبات بكاء ونشيج كلما قرأن هذا المقطع : " وداعاً إذن يا جولي المفرطة الفتنة،غداً سأكون رحلت إلى الأبد. ولكن ثقي أن غرامي العنيف الطاهر لن ينتهي إلا بانتهاء حياتي، وأن قلبي المفعم بهذا المخلوق الملائكي، لن يهبط بنفسه إلى إفساح مكان فيه لحب ثانِ، وأنه سيوزع كل ولائه المستقبل بينك وبين العفة، وأنه لن يدنس لهيباً آخر المذبح الذي عبدت عليه جولي"كان الحب بالنسبة لروسو شكل من اشكال  من العذاب ، ونجده في الاعترافات يكتب : " الحب حيلة معدية ، رجل كاد يموت من دون ان يعرف ذاته " .وكان روسو يرى ان الحب لم يكن طبيعيا في حياته ، وانما تاريخ لاضطراباته النفسية ، جرب الحب للمرة الاولى  عندما بلغ العشرين من عمره ، لكن بهجة الحب تلك لم تكن صافية ، فبعد سنوات من نشر رواية  هلويز الجديدة  يعيش قصة حب مشابهة ، وهذه المرة مع الكونتيسة " صوفي دويتويو " امرأة جميلة ولطيفة  تصغره بتسعة عشر عاما ، وقد كتب يصفها في اعترافاته : " الذكرى الخالدة للبراءة  والنعمة جالسة  في ذلك البستان ، على مقعد عشبي  تحت شجرة ( أكاسيا )  في حالة إزهارها الكامل ،  لا أجد كلمات تناسب عواطف قلبي ، انها المرة الاولى والوحيدة  في حياتي ، يا لتلك الدموع المسكرة  التي ذرفتها عند قدميها " ،  ومثل بطلة قصته جوليا ، تتزوج صوفي من المركيز دي سانت لامبيرت لتترك الفيلسوف يعيش مع احلامه يكتب رسائل لامرأة في الخيال :"  النيران تتأجج في انحاء جسدي ، آلام حبي لك .الوجع يسري في جسدي مع لهيب غرامي بك ، السقم يجول في جسدي مع حبي لك ،  اتذكر ما قلته لي  : أفكر في حبك لي ، الوجع والمزيد من الوجع ، الى اين تذهبين مع حبي ، أخبروني بأنكِ ستمضين بعيداً وستتركينني وحيدا ها هنا " . ويُعيد روسو على مسامع صوفي ما قالته جولي في الرواية :" لا يمكن لمن تذوق الحب  إلا ان يشعر  بالخزي حين يفقد الحبيب " .
لم يتوقف روسو خلال حياته التي استمرت 66 عاما توفى عام 1778 ، عن الاشارة لخيالية الحب ،  لكن وعلى الرغم من كونه نابعاً من الخيال ، الا ان آثاره واقعية تماماً : " الحب ليس إلا وهماً ، اعترف بذلك ، إلا انه يحوي حقيقة واحدة تتمثل في ما يولده فينا من شعور بالجمال الحقيقي  الذي يجعلنا نحب ، هذا الجمال لا يتمثل في من نحب ، بل هو من صنع أخطائنا . ماذا ؟ هل تضمحل الجوانب المنحطة من ذواتنا من اجل هذا النموذج الخيالي ؟ هل يجعلنا الحب نتخلى عن الاشياء الوضيعة في الحياة ؟ "
في العشرين من عمره  يعثر بالصدفة على نسخة من رواية " هلويز الجديدة "  وتسحره الرواية  ، ويقرر ان يكرس جزءاً من وقته لقراءة اعمال روسو ، ويكتب لأستاذه هنري جيمس :" كان روسو مجهولاً تماماً بالنسبة لي ، وبدأت بتقليب صفحات روايته " هلويز الجديدة . لا أعلم أية روح حارسة كانت تهمس لي "خذ هذا الكتاب الى المنزل". في جميع الأحوال هذا ما حدث ، مع انه كان مناقضاً لعادتي بعدم التعجل بقراءة  كتاب أبداً . في المنزل رميت بجسدي على السرير ، وبدأت بالسماح لتلك الرواية الساحرة  بالتأثير على حياتي .كان كل سطر يصدح بالتضحية  والشوق والألم " .
*****
عن أي أمل تتحدث؟
عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره ، لم يتحقق حلمه بان يصبح ممثلا ، لكنه أدمن كل اسبوع  على مشاهدة كلاسيكيات شكسبير، حفظ حوارات مسرحياته ، وكان اذا عاد الى غرفته الرطبة يقوم بإداء الادوار بصوت مرتفع ، وذات يوم شاهدها تؤدي دورا صغيرا في مسرحية عطيل ، اقترب منها ليقول لها بتردد : اسمي تشارلز ديكنز ، أحاول ان اكتب للمسرح . فتجيبه ببرود :  " لم أسألك عن هواياتك .ياعزيزي".  
منذ ذلك اليوم اخذ يحرص على ارتداء ملابس مناسبة ، حرص على أناقته  ، وقد لاحظ صديقه بوب فاجن ، التغيّر الذي طرأ عليه  فقال له : ابتعد عنها يا تشارلز ، فهذا النوع من النساء لا يهتم بصعلوك مثلك.
- لكني أحبها ..أجاب.
• وما الفائدة .. انها محاطة دائما بالأثرياء.
- لا يهم اني احبها وكفى  وستصير لي وحدي ذات يوم.
• هذا هو الجنون ..قال له صديقه.
ولم يتجرأ على مفاتحتها بمشاعره ، لكنه شرح لها حبهه من خلال رسالة كتبها بعناية ، وانتظر خروجها من المسرح ليسلمها لها ويهرب .
في اليوم التالي يجدها تنتظره على باب المسرح لتقول له :" انك انسان رقيق جدا ، لم اكن اعرف ان قلبك  يحمل كل هذا الحب لفتاة مثلي محاطة بعشرات المعجبين ، لكن ثق ان لك احتراما خاصا في نفسي" .
لم يصدق وهو يقول  إذن هناك أمل.
• عن أي أمل تتحدث ..قالت:
- أعني قد يأتي اليوم ، فتقاطعه : " ماذا لو تركنا الامور للايام ياعزيزي ديكنز فمن يدري كيف ستكون النهاية " ؟
وترسخ في ذهن ديكنز ان الشابة قد احبته وانها تبادله نفس المشاعر ، مما دفعه ذات يوم الى ان يتقدم للزواج منها ، ليجد احدى صديقاتها تقف امام بوابة المسرح وهي تحمل رسالة مكتوب فيها : " أنصحك وانت في اول شبابك ان تنساني ، وانت تبحث لنفسك عن زوجة تناسب ظروفك ".
كانت رسالة ماريا ، ايذانا بان يصحو من أوهامه  ، ويتوقف عن الذهاب الى المسرح ، وينسى فكرة التمثيل ، ليجد نفسه يجلس ذات ليلة الى منضدته  الصغيرة ، يكتب قصة غرامه الاول ، وليعبر عن احاسيسه ومشاعره تجاه ماريا التي اوصدت الابواب في وجهه ، ليجد نفسه  بعد ثلاثة اشهر من الكتابة المتواصلة قد انتهى من رواياته " دوريت الصغيرة " : لم اصدق انني انهيت الفصل الاخير منها ، انني كتبت رواية ذات شخصيات  ومواقف  ، كان كل همي ان ادوّن احاسيسي بعد ان تخلصت من حب ماريا ، وبعد ان الحقت بي مذلة لا تزال مرارتها تهيمن على عقلي " . في اليوم التالي ذهب بالمخطوطة الى رئيس تحرير الصحيفة التي يعمل بها مندوبا ، فلم يجد غير سخرية مرة :
- انت ياتشارلز تكتب رواية ، وماذا تفهم في الادب؟
• لا افهم شيئا ، ولكني قرأت كثيرا ، كل ما اريده ان تقرأ الرواية فربما تروق لك .
لم ترق الرواية لرئيس التحرير الذي وجد صفحاتها الاولى  ساذجة ، فنصح تشارلز بان يركز جهده على اخبار البلدية ، لكن الرواية التي كتبها ديكنز في دفاتر ، تقع بيد الابنة الكبرى لرئيس التحرير ، الفتاة كاترين كانت في العشرين من عمرها ، جميلة ومثقفة  اخذت  تتصفح الدفاتر ، وما ان قرات  الجملة الاولى من الرواية :" ذات يوم في لندن التقى آرثر بخطيبته السابقة  فلورا فينتشينغ  "  حتى اقبلت على مواصلة القراءة ، وحين  اخبرتها والدتها بموعد العشاء رفضت ان تترك الرواية جانباً ، وحين جاءتها المربية  لتخبرها ان الساعة تجاوزت منتصف الليل  ، وحان  وقت النوم ،  قالت كاترين :  لا داعي للعجلة  ، واستمرت في القراءة  ، ولم تسأل عن الوقت حتى ادركها  الصباح وهي تقرأ الصفحات الاخيرة من حكاية دوريت ، فتخبر والدها الذي وجدها متورمة العينين من البكاء ، ان هذا الكتاب لو نشر في الجريدة  ، فانه سيحقق نجاحا هائلا :" ان كاتب هذه الرواية استاذ في الرقة والاحلام العاطفية " ويتعجب الاب من كلام ابنته ، هل يعقل أن مندوب البلدية  ، يمكن ان يكتب رواية جيدة ، فقد قرأ منها عدة صفحات لم ترق له . وفي اليوم التالي يطلب حضور ديكنز ليفاجئه بالقول : لقد قررت ان انشر قصتك على حلقات . كان رئيس التحرير يعتقد انه جازف في الامر ، لكن توسلات ابنته العزيزة على قلبه وحبه لها جعله  ، ينشر رواية لكاتب لم يسمع به احد من قبل ، الا ان  المفاجاة كانت بانتظاره  ، حيث ارتفع توزيع الصحيفة من 2000 الى 30000 نسخة  ، وانهالت رسائل القراء تسأل عن صاحب قصة الحب هذه ، الأمر الذي جعل رئيس التحرير يطلب الاجتماع بتشارلز ديكنز ليبحث معه توسيع مساهماته في الصحيفة .
- القراء يحبون حكاياتك ، حسنا لنوقع عقد رواية جديدة
•  لديّ اوراق جمعتها من حكايات المدينة اسميتها " أوراق بيكوك "
- موافق قال رئيس التحرير ، وبهذه المناسبة اقمت الليلة في البيت حفلا صغيرا بمناسبة نجاح الرواية ،  فأرجو ان تشرفني بالحضور ،  ثم اضاف : لكني احذرك لدي اربع بنات كلهن من المعجبات بروايتك ، ارجو ان لا تحاول ان تغازل واحدة منهن ،  الا اذا كنت تنوي الزواج
• وإذا كنت لا أنوي الزواج ..قال ديكنز.
- اجاب رئيس التحرير وهو يضحك  : عندها سأتوقف عن نشر روايتك  حتى لو صدر قرار ملكي بنشرها .
*****
ست نساء
في حياة تشارلز ديكنز ست نساء ، الممثلة ماريا حبّه الاول ، كاترين هوجارت ابنة رئيس التحرير التي تزوجها وشقيقتها ماري وجورجيينا ، وانجيلا بودريت التي كون معها جمعية خيرية ، والين تيران حبيبته التي عشقها في اواخر حياته ، وكان واضحا ان ديكنز حاول ان يشارك القراء وصف حالات الحب التي مرت به ، وطالما وضع هذه الحكايات على لسان شخصياته التي يؤكد دارسو ادبه ، ان مغامراته العاطفية كانت مادة دسمة للعديد من رواياته ، فقد الهمته ماريا شخصية فلورا في دوريت الصغيرة ويبدو ان قصة المرأة الاولى تركت اثرا عميقا في نفسه  ، فنجده يكتب لها في احدى رسائله :" تركت لدي انطباعا عميقا حتى انني ارجع اليك تلك العادة التي لازمتني في قهر النفس ، والتي اعرف انها ليست جزءا من طبيعتي الاصلية ، ولكنها تجعلني شحيحا في اظهار عواطفي حتى بالنسبة لاطفالي  " ، ونجدها تكتب اليه بعد انتهاء قصة حبهما بعشرين عاما :" ان صورة فلورا   فينتشينغ  في دوريت الصغيرة تشبهها كثيراً على الرغم من انه قدمها بصورة المرأة اللعوب . تقع رواية دوريت الصغيرة في قسمين  الاول بعنوان الفقر ، والثاني الأغنياء  وتدور احداث القسم الاول حول رجل أُحتجز في سجن المدينة مدة طويلة ،  حتى ان ابنته  تولد وتنمو وتكبر بعيدة عنه ، وفجأة يجد نفسه مضطرباً وحائرا  ، فهو حر وغني  في القسم الثاني ينتاول  ديكنز ما يفعله الرجل بحريته وماله ، حيث يحدوه دائما هدف لفعل الخير  لكنه قلق  ومشتت وخصوصا في علاقاته مع النساء ، وفي هذه الفترة  يتعرف على " فلورا فينتشينغ  " ابنة صاحب أقطاعية  ويجد فيها متنفسا لرغبة خاصة لا تتوقف ولا تحد للانتقام من النساء الخائنات  وهو الموضوع الذي ظل يشغل ديكنز منذ ان اهملته ماريا وصدته ، وفي الرواية نجد الذكريات تنخر عقل كلينام  ، وهو طيلة الجزء الاكبر من الاحداث  لايريد ان يعرف ان حبّه للورا محكوم بالفشل ، وان الهوى المبالغ الذي تكنه له " دوريت " سيكون من اكثر العلاقات تألقا وبريقا في حياته التي طغت عليها السوداوية.
ان كليام هو ديكنز الذي يحلم بالثروة والانتقام من ماريا ، يخبرنا الروائي هنري جيمس وهو من معاصري ديكنز  ، ان عاطفة ديكنز الاخلاقية في دوريت الصغيرة تتركز حول فكرة الهجر والخيانة ، كما تتمثل في فلورا ، التي تحبكُ المؤامرات من اجل الاستمتاع بثروة كليام ،  ورغم خداعها له الا انها تترك تاثيرا كبيرا عليه . ومع ان " دوريت الصغيرة توصف بالرواية السوداء ، فان قلة من القراء لم تحركها مشاعر التضامن مع بطل الرواية :  " رجل في الثلاثين من عمره له رأس عالية لكنها حسنة الشكل وشعره القصير المقصوص لا يزال خفيفاً  ووجهه صغير  ، به ملامح من الجمال رغم التعب والأسى  ، عيبه الوحيد حالات الشرود التي تنتابه كثيرا  ،  اما عيناه الواعيتان  الغريبتان  ، فهما مع ذلك عينان غامضتان  وثاقبتان في الوقت نفسه ، ذكيتان وقاسيتان ، تعبران عن المراقب  وكذلك عن عيون الحالم " ، ولعل الصورة التي يرسمها ديكنز لبطله تقترب كثيرا من صورته عندما كان يقترب من  سن الثلاثين .وهي نفس الصورة التي سحرت كاترين ابنة رئيس التحرير التي كانت فتاة جميلة  تتفوق على شقيقاتها في المرح  ، ولما شاهدت ديكنز للمرة الاولى  قالت له بكل ثقة :" لا تظن ياسيد ديكنز ان شهرتك الادبية  يمكن ان تؤثر في فتاة مثلي وتجعلها تقع في حبك  ، انني محصنة ضد الغرام . "  
من النظرة الاولى أحب ديكنز كاترين ، واخذ يرسل لها يوميا قصاصات ملونة من الورق يكتب فيها :" حياتي العزيزة .، ارسل اليك قبلاتي الحارة ولثماتي الثائرة "  ، وكان ديكنز يسال كاترين بعد كل رسالة ان تصارحه رأيها فيه ، فتطلب منه ان يُكثر من هذه الرسائل . وذات يوم تطلب منه ان يرسم لها صورة للحب كما يفهمه فيكتب رسالة مطولة نشرت فيما بعد ضمن  مجموعة رسائله :" عزيزتي كاترين بالطبع بوسع الحب ان يتخذ اشكالا عدة  لكنها في معظم الحالات مطاردة للفرح  وسعي محموم  نحو امل يأتي او لا يأتي ، انه اشبه بالفيضانات والاعاصير ، نسبح في هذا المد والجزر ، والكُتاب من امثالي يميزون بين نوعين من الحب ، الحب المتبادل  وهو المصحوب بالتحقق والفرح ، والحب غير المتبادل  ، اي المصاحب للخواء  والقلق والهم  ، ياعزيزتي منذ ايام وانا الرجل الذي تكسرت آماله على مذبح الحب  ، اعيش الحب مجددا مع فتاة مدهشة  تمثل لي العالم كله ، واكتشف معها بعد كل سنين الألم والعذاب ،  انني مازلت قادرا على الوقوع  في الحب من جديد ، ليست لدي القدرة على التحكم بعواطفي ، لان قلبي متعلق بك ولا اعرف ماذا افعل؟ "  يقرر ديكنز الزواج من كاترين ، وحين يخبر والدها بالامر وبانه مستعد لفعل اي شيء لإرضاء كاترين وكسب ودها  ، يقول له الاب:  "انك لا تعرف ابنتي جيدا ،  انها قادرة بدلالها وعبثها ان تورثك الجنون ، ولهذا انصحك بالزواج من شقيقتها ماري " ، فيكون جواب ديكنز قاطعا :" اسف لن اتزوج سوى كاترين " .
*****
الحب الآثم
في الخامسة والثلاثين من عمره اصبح ديكنز أشهر كاتب عرفته بريطانيا  وصار حديث الصحف ، وانجبت له كاترين عشرة ابناء ، لكنها لم تكن سعيدة معه ، فمعظم وقته يقضيه في الكتابة :" كل وقتك مع الورق والقلم ، لست ادري لماذا رضيت بك زوجا؟ " ، وبدا كل منهما يعيش في جزيرة منعزلة ، لم تعد كاترين تهتم بما يكتبه ، واخذت تقضي اوقاتها في سهرات الطبقة الارستقراطية ، في تلك الفترة جاءت اختها ماري لتقيم معهم  ، يصفها ديكنز بانها ارق واجمل فتاة شاهدها في حياته ،  وكانت هي مغرمة به أيضا ، فاصبحت ترعاه وتراجع مخطوطاته ، ونراه يحبها كانه يحب للمرة الاولى ، ولم يفكر بان هذا الحب محرم او انه يخدش الحياء ، اصبحت ماري مصدر سعادته الحقيقية  ، كل الاحاسيس الجميلة التي سطرها في رواياته  في تلك الفترة  ، كانت بوحي منها ، لكنها تمرض فجاة  وسرعان ما تتدهور حالتها  الصحية ، لتموت بعد اشهر وقد وصف مشهد مرضها في روايته الشهيرة ديفيد كوبر فيلد :" سيظل يذكر ما عاش حرارة صلواته في تلك الليالي بالمقارنة الى ما اعتاد ان يؤديه من صلوات سريعة لاتكاد تمس صميم القلب .تلك الليلة لم يكف عن الدعاء والتوسل الى خالقه ان ينقذ حياتها ويعيد اليها صحتها ، وبهجة ابتسامتها ولمعة عينيها المليئة بالحنان " . وحين ماتت لم يستطع من فرط حزنه العيش في نفس البيت فقرر السفر الى خارج بريطانيا فقضى اكثر من عام يتجول في اوروبا ، وحين عاد كان قرار الطلاق من كاترين ضرورة لصعوبة العيش بينهما  ، وخاضت الصحف في حياته الشخصية  وتتفاقم الازمة بينهما بعد مجيء شقيقتها الثانية فرجينيا لتقيم معهم ، حيث  لاحظت كاترين اهتمام ديكنز بها فصرخت : حسناً يبدو انك تريد ان تلحق العار بكل بنات هوغارث  اني اوافق على فكرة الطلاق اذا اقسمت لي انك لن تتزوج بفرجينيا بعدي. وطلقها لكنه لم يتزوج بعدها . في كتابه كيف نقرأ ولماذا  يكتب الناقد هارلود بلوم :" ربما كان ديكنز يحاول رسم المرأة المثالية من خلال بطلاته، لكن عندما التقاها في الحياة الحقيقية كانت أقل من مثالية. ربما كان يحاول رسم الشخصية التي ظن أن جمهوره يريدها. إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد النساء الفاتنات اللاتي عرفهن ديكنز.
بعد طلاقه من كاترين، اصيب ديكنز باضطراب عاطفي ونجده يكتب رسالة الى ابنته :" انني اعاني الوحدة والقلق " في تلك الفترة يتعرف على الين تيرنان فتاة في الثامنة عشرة من عمرها ، فيقرر الارتباط بها عاطفيا ، ولانه اصبح من الاثرياء يشتري لها بيتا خاصا ، وتصل عدد رواياته الى خمسة عشر رواية ومئات القصص وعدد من المسرحيات ويحقق شهرة لم يحققها كاتب بريطاني قبله ، لكنه يصاب بالمرض وقد بلغ الثامنة والخمسين من عمره ليتوفى عام 1870 تاركا رسالة حب الى ألين ومعها الف جنيه استرليني والتي كانت تعد انذاك ثروة كبيرة ، وتقرا كاترين اخر رسائل الحب التي كتبها زوجها السابق لمحبوبته الاخيرة :احبك يامن ملكتني كاملا ، يامن معها هربت من الناس ، لنحلق بعيدا جدا " .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

نادي السرد في اتحاد الأدباء يحتفي بالقاص حميد الزاملي

مقالات ذات صلة

"لِوِيسْ بَاراغَانْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5852-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي هل بمقدور نوعية <ناتج معماري> محدد أن يؤسس لسمعة معمارية عالمية؟ وهل بوسع <مفردات> معمارية بسيطة ومتواضعة.. ومحتشمة ان تكرس مثل ذلك التمجيد وتضفي ثناءً ومديحاً لمعمارها المصمم؟ وهل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram