" بعد سنوات قليلة سوف تتسيّد الرواية عرش الأدب العراقي، وتتهاوى كل الفنون، فالروائي يخلقحيوات أخرى وأُناساً يسكنونها، وهو مَن يُنشئ بداياتهم، كما أنه هو مَن يضع نهاياتهم ويكتب لهم الأقدار، لهذا فلا فنّ أدبي باستطاعته اليوم وحتى مستقبلاً أن يُضاهي الر
" بعد سنوات قليلة سوف تتسيّد الرواية عرش الأدب العراقي، وتتهاوى كل الفنون، فالروائي يخلق
حيوات أخرى وأُناساً يسكنونها، وهو مَن يُنشئ بداياتهم، كما أنه هو مَن يضع نهاياتهم ويكتب لهم الأقدار، لهذا فلا فنّ أدبي باستطاعته اليوم وحتى مستقبلاً أن يُضاهي الرواية." ن. ع. روائيٌّ قد يتصف بالتعصب، حين يتحدث عن مجاله الادبي.
ولم يكُن ن. ع. وحده المتعصب اليوم تجاه فن الرواية، بل هنالك الكثيرون يشبهونه، حتى أنهم أشاعوا أن " الرواية ستكون سيدة الادب العربي مستقبلاً، ولن يكُون هناك مكان للشعر..." ليتركوا القارئ النهم والبسيط على قيد تفكير وانشغال بهذه الاشاعة.
أما النخب تحاول جاهدة توضيح أن للرواية شأنها، وللشعر شأنٌ آخر، وخصوصاً أن السرديات هي فنون دخيلة على الكيان العربي، فهذا الكيان وجد منذ القدم على أنه كيان شعري، ولا يزال الميل العربي يذهب بكفته إلى القصيدة، ولكن هل بإمكان الفنون الدخيلة أن تُزيحه عن عرشه؟ وهل من المنصف يا ترى أن نخلق وجه منافسة بين السرد والشعر في حين أن السرد هو فنّ فكري، والشعر فنّ حسيّ ؟
نعم هنالك شُعراءٌ كُثر، وكبار، جربوا كتابة الرواية، البعض منهم نجح في ذلك، فقد استطاعوا توظيف مشاعرهم واحساسهم بقواعد وتقنات هذا الفن الفكري، وخلقوا حكايا رائعة لا خلاف عليها، في حينٍ تهاوى آخرون، فلم يكُن لأحساسهم الشعري الخضوع لقواعد فكرية....
" كثيراً ما قلت أن الرواية تخاطب العقل، والشعر يخاطب الاحساس، لهذا في الشرق لدينا الكثير من الشعراء، وقلّة قليلة من الكُتّاب والمفكرين." بهذه الجملة اجابني الشاعر صلاح حسن، حين سألته هل ستترأس الرواية عرش الأدب العربي مستقبلاً؟
الشاعر يرى أن العراق قلب كفة الميزان العربي في ميله نحو القصيدة، وتفضيلها على السرد، يقول صلاح حسن " يبدو أن الوضع في العراق بدأ يدفع الشعراء لكتابة الرواية، ذلك أن ما يحدث في العراق غير مسبوق ويستحق التأمل، وإعمال العقل من اجل تدبر نهاية لهذه المأساة اليومية التي تحدث في هذا البلد المنكوب."
صلاح حسن الشاعر الذي كانت له تجربة اولى في كتابة رواية انهاها قبل فترة ليست بالطويلة يعتقد أن " الاتجاه الى الرواية في العراق ليس موضة، ولا لأن هذا الفن سيتسيد المشهد الادبي كما هو مشاع، لكن كما قلت في البداية أن الرواية تخاطب العقل، والكاتب العراقي اليوم لجأ لها لأنه يريد أن يخاطب عقول الناس، لا مشاعرهم فقط من اجل انقاذ هذا البلد من الخراب."
رواية "بيت تحت السحاب" كانت إحدى انجازات الشاعر هاشم شفيق التي كتبها عام 1988، ونشرها عام 1990، وقد نجح شفيق في كتابة روايته تلك، ولكنه لن ينسى أن "الشعر سيد الفنون" حين إنفجر بي قائلاً " لا صحة لما يشيعهُ بعض النقاد الذين أطلقوا كلامَ " الرواية ديوان العرب" فهذا الكلام غير دقيق اطلقه أؤلئك النقاد لأنهم عجزوا عن متابعة تحولات القصيدة الحداثية العربي، فالرواية فن موجود، والشعر كذلك، لكن الشعر عربيا سيبقى سيد الفنون، ولا ننسى أن لكل فنًّ خصوصيته."
هاشم شفيق برر كتابته لرواية " بيت تحت السحاب" قائلاً " كنت بحاجة للخروج من اجواء الشعر قليلا وقد هربت منه إلى كتابة تلك الرواية."
الرواية فن مهم بالطبع، ولكنها لا يُمكن ان تتسبب بإنقراض الشعر، وهذا ما أكده شفيق الذي نشر مقالاً بعنوان " الشعر جواب على سؤال الحياة" مبيناً خلاله أهمية هذا الفن الادبي، الذي لا يزال باقيا ومستمراً حتى أنها يخضع لتطورات وتجديدات مهمة وكبيرة، ومن يحاول أن يفتي بأن الشعر إنقرض، فهؤلاء بعض ممن اسموا انفسهم نقادً إلا انهم لم يستطيعوا التواصل مع الجيل الادبي الجديد."
إشارة الشاعر هاشم شفيق للنقاد، قادتني إلى رغبة لسؤال بعض النقاد، والأخذ بآرائهم حول ما يُشاع اليوم، عن تنافس الرواية والشعر لإعتلاء العرش الادبي...
"الكيان العربي، كيان شعري، حتى أن العصر الجاهلي مثّل جذور الشعر العربي، لذلك لا يُمكن أن نفتي أن الشعر مُعرضٌ للانقراض، فهذه موضوعة شائكة، أما فيما يشاع عن أن هذا العصر هو عصر رواية فهذا الامر يتعلق بالعالم كله" هكذا بين مــدٍّ وجزرٍ وحيرةٍ وحيرة، جاءت كلمات الناقد بشير حاجم معلقةً على الموضوع...
لكنه حالما فك شفرات كلماته تلك وقال" إن الحصيلة الابداعية الاولى للحضارة العراقية هي الشعر، فما وجدته التنقيبات الاثرية في هذه الارض هي الشعر، أما الفنون الاخرى، كالمسرح والموسيقى، والرواية وغيرها فهي فنون طارئة."
الكيان العربي يبحث دائما عن التجديد، وهذا قد يبرر ميل المنطقة والمشهد الادبي إلى الرواية اليوم، فيذكر حاجم " أن بعد استيراد هذه الفنون وبما فيها"الرواية" بدأنا نلمس اهتمام النُّخب الادبية العربية بها، والعراقية خاصة، من خلال انشاء مؤتمرات وجلسات وفعاليات، بعد أن كانت جميع المهرجانات والجلسات متعلقة بالشعر فقط."
وهنا تتفجر لي جملة أخرى أطلقها الناقد بشير حاجم ليعزو لها اسباب بث شائعة " تسيد الرواية المشهد الادبي...." فيقول حاجم " في تقديري كناقد أعزوا سببا لبث تلك الاشاعة، وهذا السبب خطير جدا، وهو توجه بعض الشعراء الكبار(فهم اسماء كبيرة) لكتابة الروايات، فما الذي يجعلهم يتوجهون للسرد رغم انهم لم يتركوا الشعر." ويضيف " ان هؤلاء الشعراء اخفقوا في المستوى الابداعي والنقدي في كتابة تلك الروايات، رغم تفوقهم في الشعر، ولم يعوا الفرق بين انفعال القصيدة واشتغال الرواية، ذلك لأن الرواية فن يعتمد على بناء التقنيات."
وأكد الحاجم " أن هنالك خطأ آخر ارتكبه أؤلئك الشعراء، هو أنهم لم ينتبهوا بأن هنالك قاصين أخفقوا في تجارب كتابة الرواية فكيف بالشاعر؟!"
الرواية بحسابات السوق هي الاكثر مطلوبية، الامر لا يقتصر على العراق، فالظاهرة عالمية، الشاعر ابراهيم البهرزي يحسب أن" هذاعصر الرواية وعصر انحسار الشعر في العالم كله" حديث البهرزي جاء مخالفاً لكل الآراء التي طُرحت امامي، ليقول"شعراء كبار وراسخون في جميع أنحاء العالم لا تتجاوز مبيعات أفضلهم الألف نسخة في حين يباع من بعض الروايات مئات الألوف من النسخ."
ولكن للبهرزي اسباباً علَّق عليها هذا الانحسار الذي تشهده الرواية، فيقول " أن هنالك اسباباً كثيرة ادت الى رثاثة المنتج الشعري، من بينها وسائل التواصل الاجتماعي، التي سببت التراكم العشوائي للشعر."
نعم من حق الجميع أن يعبر بالصيغة التي يشاؤها، ولابد أن نعترف ان قصيدة النثر هي السائدة الآن، إلا ان البهرزي يجد أن هذه الاسباب أدت لتهاوي الشعر قائلا" لقد بدأ البعض يعتبر كل مجموعة عبارات على انها قصائد نثر ويضعها تحت مسميات متعسفة مثل " الشظية " أو " الهايكو "، هذا ادى إلى جزع القارئ من هذا التراكم وميله إلى الرواية بحسب طبيعة الفرد في البحث عن الندرة."
البهرزي، يجد ان الشعر بدأ بالتلاشي فعلا، والميول تتجه نحو الرواية، وقد وضع كثير من الاسباب المقنعة، المرتبطة بعصرنا هذا، فهو يجد أننا نعيس عصرا استهلاكيا، لم يعد القارئ يميل إلى التأمل وبذل المجهود العقلي الذي تتطلبه قصيدة النثر الحقيقية، بل بدأ يميل الى التسلية والبساطة التي تمنحها الرواية، وإن جائت الرواية بتقنيات سردية صعبة على القارئ فبدوره لن يميل لها ايضا..
"غياب نقاد عراقيين موضوعيين وناضجين" سبب آخر يضعه البهرزي لتراجع الشعر، وانتشار روايات بسيطة تخلو من التقنيات الصعبة، فصار هاجس المتلقي اليوم هو الرواية الاكثر تسلية ورواج، وغالبا ما يكون هذا الترويج خارج المتن النقدي والموضوعي الرصين، وهو ترويج صحفي سريع شأن طبيعة الرواية السائدة
اما بصدد توجه بعض الشعراء لكتابة الرواية ، فبحسب اعتقاد البهرزي الشخصي "ان شاعرا جيدا يستطيع كتابة رواية جيدة، أقول جيدة وليست رائجة ، وهناك فرق كبير بين الرائج والجيد للاسباب التي أسلفت بعضاً منها ،رواية الشاعر قد تنحرف بشكل ما عن جادة السرد الصحفي السائد في الرواية حاليا ، بسبب طبيعة الشاعر وممارساته الكتابية ، لذا فان روايته قد لا تفلت من بعض تقنيات الشعر التي تقود الى التأمل والتفكّر غير المطلوب حاليا ، والشاعر سارداً لا يمكن ان يرتهن للسائد."
سمحت لي الآراء السابقة العدول عن تساؤلي، الذي حالما أعاد البهرزي إشعاله من جديد في داخلي من خلال كلامه الخطير الذي اطلقه بحق هذا العصر الادبي، فعدت لإصراري، هل سيتسبب الاهتمام بفن الرواية كجنس ادبي، بموت الشعر، وتلاشيه؟ " العبث" كان الرد الصارم للناقد د. نجم عبد الله كاظم، الذي ذكر " أن هذه الشائعات ليست سوى عبثا يصدر عن اناس لا يملكون انشغالا فكريا وابداعيا، ولكن للاسف علينا مناقشتهم."
الناقد د. نجم عبد الله كاظم لا يرى أن ما يُشاع غريبا سواء عربيا ام محليا وحتى اوروبياً، ففي نهاية الستينيات وبداية السبعينيات أُشيع في اوربا أنه عصر نهاية الرواية، واليوم يُشاع ان هذا العصر هو نهاية الشعر، ولكن كاظم يؤكد " ان من الصعب لجنس ادبي ان يموت وذلك لسببين مهمين اولهما المبدع نفسه، فكل مبدع يجد حرية التعبير عن افكاره في مجال وجنس ادبي معين، البعض يميل لكتابة رواية واخر يميل لكتابة قصيدة لتعبر عنه، اما السبب الاخر، يعود لميول المتلقي، فلا يمكن ان يتفق المتلقون على ذات الميل الادبي."
ويوكد كاظم " ان الازدهار الذي تشهده الرواية اليوم في العراق، لا يعني انه على حساب الشعر، لأن الشعر يحتل مكانه عالية وحين ظهرت الرواية ظن البعض ان الشعر قد انحسر."