-2-بعد هذا العرض الذي أوصلنا الى تحفظ النقد الجديد..، نسأل: هل كان موقف النقدية الجديدة من "ويتمن" موقفاً سليماً؟ هل كان "للنقد الجديد" موقف علمي، وأنه يرى من مهماته تأكيد سلامة القيم الشعرية إرثاً، وتطورها مقبولاً؟ ليست النقدية الجديدة وليدة أسواق ا
-2-
بعد هذا العرض الذي أوصلنا الى تحفظ النقد الجديد..، نسأل: هل كان موقف النقدية الجديدة من "ويتمن" موقفاً سليماً؟ هل كان "للنقد الجديد" موقف علمي، وأنه يرى من مهماته تأكيد سلامة القيم الشعرية إرثاً، وتطورها مقبولاً؟ ليست النقدية الجديدة وليدة أسواق الكتب ومنتديات الأدب، هم فطاحل الأدب وأساتذة الشعر والآداب المقارنة ونظريات الجمال!
لنُعدْ السؤال بصيغة أخرى: هل كانت "النقدية الجديدة" تبحث في "الشعر الجديد" عن ظلال الشعرية الازلية وعن مرتكزاته الموضوعية، من درامية وحس السخرية اللذين ما فارقا الاعمال الكبيرة والجمال الرصين والمسؤوليات الاخلاقية في المضامين، والنضج الواضح في الاشكال؟ وهل حماستنا للجديد تبيح لنا محظورات تدمر الشعرية أو تستهين بمستقبل العمل الشعري؟ هنا، وبعد هذه التساؤلات، نرتضي حقيقة الموقف العام من قرّاء الشعر ودارسيه. ففي البداية كان موقفاً متحفظاً قريباً من الرفض لنقاط خلل بنائية لا يمكن غض النظر عنها، وهي تقع ضمن مسؤوليات الاكاديمية في الحفاظ على القيم الادبية وسلامة التطور. لقد كان موقفاً اخلاقياً يهدف لأن نحقّق مكاسب مضافة لاربحاً مقابل خسارة.
إنه المنطق الرياضي للعصر وهو المنطق العصري للعالم أيضاً!
ولهذا سنجد أن ويتمن لا يتأكد إلا بمضاعفة الانساني وإلا بامريكيةِ تعبيرٍ، وانجليزية هي انجليزية الشعر ذات الصلة بالمسرحي – والملحمي. بهما، بهذين معاً، استطاع أن يعيد الاهتمام العالمي والاحترام النقدي الى الحضور - وان ظل الفن الشعري حصة كارول وليامز الأولى وحصة ولاس ستيفنس الذي تبنّى – العلمية مضموناً. وقبلهما اتضح مشهد ازارا باوند والمدرسة الصورية .
ثمّة مسألة يمكن أن تكون واحدة من المواجهات الكبرى، ومن المُسْهمات في حركة الحداثة الشعرية الامريكية واتجاهاتها. تلك هي أن الساحة الامريكية متصلة اتصالاً ثقافياً حيوياً بالاوربية المتنوعة والواسعة . فهي ليست فقيرة تستثيرها كل تقليعة.
ثمة علم لغوي ورسوخ ثقافي أدبي عام
وعلمية أكاديمية تضع الأمور في نصابها وشعراء كبار
لذا يتعذر على أي جديد كاذب أن يؤكد احترامه. جمهور ادبي مثقف فنياً وفكرياً وليست قاعات ملأى بالعوام والمتأدبين. التراث النقدي حاضر ومؤثر وفي الاكاديميات اساطين علم. غير مسموح للصبيانيات الطائشة أو التمرّدات العبثية الصغيرة. الثقافة الادبية راسخة وصعب العبث بترساناتها العلمية إلا لمتفوق يسنده علم وثقافة. الادراك الثقافي للضروريات التاريخية والوعي الاجتماعي وقدرة الابداع الحقيقية، ثلاثة مرتكزات للتقدم أو للانتشار.
وكما ترون هو منطق علمي أيضاً، منطق المختبر والتجربة !
ولذلك وبعد أن انحسر اودن من مشهد التمرد، هو ويساريته، ظلت المجموعة التي ذكرناها قلقة الحضور غير مستقرة الرؤى وغير واضحة الابعاد، حتى وصول الطاقة الشعرية، الانكليزية أيضاً، وهو الويلزي ديلان ثوماس Dylan Themas في جولته السياحية الى البلاد الامريكية.
هذا الشاعر عوّض ما كان ينقص مكسب اودن الشعريAuden Concept of poetry لكن ماذا كان ينقص مكسب اودن الشعري وهو الشاعر المتمكن المثقف وصاحب المهارات الفنية مثيرة الادهاش؟ انها "العاطفة الجديدة" ! مثلما أراد العصر الحفاظ على مكتسباته في التقليد والرسوخ وقوة الشعر أراد عاطفة جديدة، عواطف دينامية العصر وحيويته، لا رثاء ولا غزل وهجاء ولاسخريات وطرائف واحزان عامة. ديلان ثوماس تجاوز هذه الى عواطف متدفقة ساخنة جديدة! وهذه لا يولدها التقرير ولكن، فضلاً عن الموضوعات الجديدة، تولدها الموسيقى، موسيقى الكلمات والاصوات المتجاورة وتوالي المقاطع وموسيقى الحرف.
وكما نرى، هو منطق العصر العلمي الصناعي أيضاً،
الذي أراد للكلمات الشعرية اصواتاً تعبر وتنسجم مع
ايقاعات العصر الجديدة الصالحة والمشتبكة
واضح أن العلم ظل يسند التقدم وإن الاكاديمية لم تكن خَضوعاً مستسلمة، لكنها كانت مالكة المعيارية الحازمة التي تقرر ما هو محترم وتقوّم نتاج ثقافة العصر وتقدمه، فلا ارباكات واختلاط قيم ومفهومات. فلا اصغاء أو قراءة بلا تمحيص واقرار ثقافي – علمي بسلامة ما ينشر أو ما يُسْمع .
الاكاديمية حاضرة والاكاديمية كانت صاحبة رأي ومثلما تعني مصدر العلم كانت مصدر التقدم أيضاً.
حتى الآن نحن بحاجة الى ايضاح ما نعنيه تماماً بقولنا "موسيقى الشعر" والتي شغلت عقولاً اكاديمية وفنية. هنا بإيجاز لايقتصر الكلام على الايقاعات المعروفة ولكن، مع تطوير هذه، نعني فاعلية الأصوات داخل الجملة الشعرية والكلمات المعبرة المختارة وتوالي الضربات الموسيقية عبر الحروف والمقاطع. ومعروف أن الشعر الغربي تقطيعاته داخل المقطع الشعري ولا يتحدد بعروض وضرب. هذه الموسيقى الجديدة سوغت النثرية المتستّرة في الشعر الجديد. فحين يقول ازرا باوند:
"كان مكتبه في ناسو ستريت يوزع الأعمال على أصحاب المطابع
ويوزع أدوات الكتابة لإنجاز الإعلانات التجارية"
لا يبدو هذا مقبول شعرياً. لكن هذه النغمة الجديدة في الكلام لم تبقَ نثريةً عامة وقد تسربلت بموسيقى الشعر، الموسيقى الجديدة التي امتازت بها طاقة باوند الشعرية. وكما نرى، خط اودن "الموسيقي الراسخ" ما يزال وقد تطور بما اضافه باوند من تفعيلات خارج البحور الشائعة، من اللاتينية القديمة مثلاً.. هكذا تتجدد العبارة الشعرية و الصياغات.
يقول مؤلفنا لويس سمبسون:
" كنا مع اودن في تمرين عقلاني، كما يقال،
بينما الإصغاء إلى شعر ديلان ثوماس كان خبرة موسيقية.."
فهل نتحدث عن الشعرية الجديدة والموسيقى الاوركسترالية وتوزيعات باوند ومن خلالها احداث وتجارب وليدة ايامها؟ اننا بالتأكيد لن تستطيع الحديث عنها حديثاً علمياً ونجهل ما وراء المتطلبات التعبيرية ونجهل الثقافة النقدية المساندة ونفتقد العقل المثقف وهما اللذان يمنحان انسانيتنا أبعاداً دلالية ويعمقان معنى الحياة وينهضان بلغتنا الشعرية، واللغة كلها، لكن هذه هي المهمة التي نهض بها الشعر عبر العصور ...
المسألة لم تنته بما كان حتى الآن. فما يزال الخلاف الاعمق، وربما الاكثر أهمية في رأي بعضهم، ذلك الاختلاف في فهم وتحديد المسؤولية الشعرية الجديدة، اصطدم بموقف أخلاقي هو أن الفن مهمته أخلاقية، لا تجميلية ولا تزويقية ولا هو عبث أو تسلية. لكن مسؤولية اخلاقية بإزاء من؟ الفرد أم الانسانية؟ ام أن التعبير عن العمق الانساني هو تعبير فردي في جوهره؟ هل نستطيع الآن، بهذا التواصل، أن نجد صلة بالنزوع الجديد الى الذات وبأن الوظيفة الاخلاقية ليست خارجية تعليمية ولكنها اخلاقية تغيير داخل الدم، بتعبير د. ه . لورنس و ادغار الن بو، وهما متباعدان؟