TOP

جريدة المدى > عام > ورقة فـي الإصلاح الثقافي

ورقة فـي الإصلاح الثقافي

نشر في: 14 مايو, 2017: 12:01 ص

أقدر جيداً المسعى المخلص للنهوض بثقافتنا الوطنية وتوسيع مداها الشعبي. وكل دعوة للاصلاح هي دعوة مباركة نحييها. لكني، واعتذر لكم، لا استطيع تصور اصلاح ثقافي معزول أو بعيد عن اصلاح عام في البلد. يتعذر الكثير من العمل في هذا الشأن قبل الاصلاح الاقتصادي،

أقدر جيداً المسعى المخلص للنهوض بثقافتنا الوطنية وتوسيع مداها الشعبي. وكل دعوة للاصلاح هي دعوة مباركة نحييها. لكني، واعتذر لكم، لا استطيع تصور اصلاح ثقافي معزول أو بعيد عن اصلاح عام في البلد. يتعذر الكثير من العمل في هذا الشأن قبل الاصلاح الاقتصادي، الثقافة بناء فوقي كما تعلمون.. ويرافق اصلاح الاقتصاد اصلاح انظمة وقوانين، اصلاح اداري ونظام حكم. الثقافة ليست في معزل عن عموم حياة الشعب الاجتماعية.
لقد ألفنا حالاً، لنا بعض العذر فيها، هي أننا حين نتحدث عن الاصلاح الثقافي تصبح وزارة الثقافة هدفاً مركزياً وكأنها المقصودة في الخطاب. وهو توجه ظالم وغير واقعي بالنسبة للوزارة. فنحن نعرف أن الوزارة ليست كل الدولة واننا نعرف واقع الوزارة واختلاف الرؤى وما يتبع ذلك من تبنٍ أو انحيازات في كل الانشطة والاختيارات. كما أن الوزارة ليست مفتوحة الحساب لتنفِّذ كلما يطلب منها وحتّى كل ما هي تريده. اضف لذلك ما يجب الاّ يُنسى، هو أن الدولة انتقلت الى اقتصاد السوق ومفروض انتهاء ازمنة ادعاءات الاشتراكية، وتبني النشر والنشاطات الثقافية والتي من خلال ذلك تهيمن على الفكر وحرية التعبير.. نعم،  في هذا التبني بعض الضرر بالنسبة لنا الآن، لكن في ضرر اليوم ايجابية في المستقبل يجب أن لا ننساها في غمرة الحماسات والمطامح الشخصية، تلك هي التحرر من هيمنة الفكر الرسمي والابتعاد عن استمالة الكتابة لما ترضاه الدولة ما دامت هي مؤسساتها ومطبوعاتها...
إن مهمة وزارة الثقافة، كما هو المطلوب، رسم السياسة العامة لنشـــر وتطوير الثقافة ووضع المبــــــادئ الاساسية لذلك. وهــــــذا ما نتمناه ايضاً لوزارة التعليم العالي: أن تكون لها السيــاســــة العامة وتبقى النشاطــات والعمل التنفيذي للمؤسسات الاكاديمية الحـــرة.
 كفى اتكالية على دولة غير مرغوب فيها وفي فكرها أحياناً. كيف نختلف معها ونريدها تستجيب لطلباتنا؟
بدلاً من هذا اللوم الذي لا يكف والعتب والطلبات، لو نفكر بسحب العمل الينا، من الحكومة الى المؤسسات الثقافية الشعبية والاكاديمية الحرة. وأمام هذا الطموح الواسع والجذري، يمكننا أن نشير لخطوات ممكنة تمهِّد لاصلاح اوسع وتحرر الدولة والناس. هي خطوات أولى ولكنها يمكن أن تكون بدايات مسيرة جديدة ومشاريع.
فلو توفّر كل المنظمات، كل المؤسسات الثقافية، المبالغ الكبيرة التي تحصل عليها من الدولة ومن سواها، والتي تُهدَر لإقامة مهرجانات، وما فيها من تذاكر طيران وفنادق وضيافات، لمدة سنتين في الأقل وترصدها لتأسيس مجمع طباعي يطبع للكتاب والباحثين بأجور رمزية ثم يدير نفسه ذاتياً. ولو فكرنا بهذه المبالغ لتأسيس قاعة مؤهلة للنشاطات الثقافية، ولو فكرنا بالإفادة من هذه المبالغ لتأسيس مسرح للشباب يتدربون عليه ويقيمون فيه بعض نشاطاتهم ...
كثيراً من المال يهدر على مهرجانات جدواها آنية زائلة ولا توازي الملايين التي تصرف عليها، اللهم الا العلاقات الثقافية البسيطة الشخصية وهامش اعلامي ليس كبير الأثر – لسنا أبداً بعيدين عن النوايا الطيبة لمن يبذلون جهوداً فيها، لكن العمل الصائب عادةً يبدأ بالأولويات.
عملتم حتى الآن خيراً . فتوقفوا بعد عن المهرجانات الكبيرة والدعوات الكثيرة لسنتين او ثلاث وتكفلوا بمبالغها لاصلاح وتاسيس منظماتكم الثقافية. هذا لا يوقف النشاطات، ستبقى نشاطات محلية بسبب ضرورات الظرف والاحتياج. ما الذي يضيفه القادمون أو القادمات من الخارج ؟
مضت سنين ومضت معها مبالغ كبيرة على المهرجانات والدعوات والوفود والمرابد ومعارض الكتب خارج البلاد وبغداد عاصمة الثقافة وحتى اليوم :
لا مسرح جديد
لا مكتبة عامة حديثة متكاملة
ولا مكتبة اجنبية.
البلد كله بلا مكتبة اجنبية. انا لا اعلم كيف نؤسس ثقافة حديثة ونطور ثقافة بلا بِنى ثقافية جديدة ؟ أيضاً، كل المنظمات والاتحادات لا تمتلك قاعات حديثة مؤهلة لنشاطاتها. كلٌ مكتفية بفضاء ضيق اذا زاد الحضور ظلوا واقفين. فهم اما يستأجرون او يستجدون الادارات المحلية، واصحاب الفنادق والنوادي ليسمحوا لهم بالافادة من قاعاتهم.
امامنا ثلاثة عنوانات للاشارة لها بإيجاز مادامت هي الفاعلة اليوم، والى أن يتحقق جديد سواها : أولى هذه المسائل مسألة النشر كثيرة التكرار والتي هي دائماً مبعث شكوى.
اقول لكم، مع الاحترام، لا حق لأحد في العتب على وزارة الثقافة، على الشؤون الثقافية تحديداً!
يبدو العتب والطلب مشروعين ولكني هنا اريد أن احيطكم بالتفاصيل وبما وراء التفاصيل، فلنتريث قليلاً قبل اللوم:
انا رجل خدمت في الشؤون الثقافية ثلاثين سنة وكنت عضواً في لجنة النشر ورئيس تحرير مجلة فيها. فأنا اعرف، انا على بيّنة من مفردات العمل، من تقديم الطلب الى الموافقة على النشر الى الطباعة والتوزيع. وحين اقول الطباعة، بعد قرار النشر، اعني الورق، الاحبار، التصميم، الأفلام، الطبع، التصحيف والى الخزن والتسويق. وهذا يعني عشرات العاملين من الخبراء والاداريين والمحررين والمصممين وموظفي الحسابات والسواق وعمال الصيانة. اضف لذلك القرطاسية والاثاث والكهرباء والايفادات اللاضرورة لها ... وهذه كلها تضيف كُلفاً على الكتاب. وهنا بداية الفرق عن دور النشر الاهلية التي تكتفي ببناء صغير، شقة أو محل وببضعة عاملين.
ومع ذلك، وبسبب ذلك، نجد انفسنا امام حقيقة لا يمكن تجاوزها، هي نادرٌ ذلك الكتاب الذي يسدد نفقاته والاندر منه الكتاب الذي يتجاوز الكلفة الى الربح، ولو ربح بسيط. ومن هذه بضعة كتب في التاريخ والدين وبعض المترجمات، هي قليلة العدد ولا تخرق القاعدة العامة. اما كتب الشعر والقصة والنقد الأدبي المهتم بهما – وهو افضل قليلاً – فقليل منها يتجاوز مبيعه (500) خمسمائة نسخة وغالب الشعر والقصة تظل بحدود (200- 300) نسخة وهذا كثير! بعض كتب الشعر لا تبيع مائة نسخة! معنى هذا أن الدار تخسر وأن الدار تسدد الخسارة من الطبع التجاري في مطابعها ثم تجيء الشكوى من تأخر اصدار الكتب والعتب على عدم النشر... واقول لكم اكثر اني وقفت يوماً على تحميل الكتب غير المباعة والمكدسة في المخازن، في "لوري" لتُنقَل الى معمل الورق!
كانت الدولة نشطة وحريصة على الحضور فتغض النظر عن حقيقة ان كل مجلة من مجلات الدار وكل كتاب يُباع بأقل من كلفته.
وحين يخسر المطبوع بل حين لا يربح، فذلك يعني خللاً في اسلوب العمل كما هو خلل في الاقتصاد، سواء الاقتصاد المادي أو الاقتصاد المعرفي.
ارجو علمكم بأن طبع (15) خمس عشرة ملزمة أي (240) مئتان واربعون صفحة، في دار نشر اهلية تكلّف (500-600) دولار تقريباً. وهذا، تقريباً ايضاً، نصف الكلفة في دار الشؤون الثقافية بسبب ما ذكرناه..
ولابد من معرفة أن السوق العراقية ضيقة على خلاف ما يشاع. ليس كل الذين في المتنبي يشترون كتباً ولا حتى كل الادباء والمثقفين شراة . هناك قلة من المشترين.
وليس بيع الف نسخة من كتاب مثلما يكون بيع خمسة آلاف نسخة. في الحالة الاولى تزداد كلفة المطبوع. سبب قلة الشراء هو انخفاض الدخل الشهري لغالب القرّاء في العراق. والاحتجاج بزيادة المطبوع والتسويق، احتجاج لايستند الى خبرة. لمن نسوّق؟ وفي ظروفنا الحالية؟ نحن لم نستطع التسويق زمن الدار الوطنية للتوزيع وقوة البلد واستقراره الامني وسلامة المواصلات.. أظن الصواب هو أن تظل الشؤون الثقافية للمطبوع الرسمي والكتب التي تعني بالعراق، من وثائق الى مؤلفات عن تاريخه وتفاصيل واقعهُ الاجتماعي وتاريخه السياسي وشخصياته الوطنية والفكرية ليجد الباحث المعنيّ مطبوعاً موثقاً واميناً عن البلد وهنا تتضاءل الخسارة وإن كانت، فتقابلها جدوى وطنية واضحة للتعريف بالشعب وتأريخه. يقابل هذا تمكين دور النشر الاهلية من طبع الكتب ومعاونتها بـ:
إعفاء الورق والاحبار ومكائن الطباعة واجزائها من الكمارك ومن رسوم المهنة وضريبة الدخل. ولا بأس من ان تتولى طبع كتب الوزارة- الشؤون الثقافية- بمبالغ تقارب الكلفة التي تترتب على الدار الرسمية لسنتين، مثلاً، تشجيعاً لهذه الدور وتمهيداً للتحول الى الاسلوب الجديد. وللعلم ايضاً:
إن أي دار نشر صغيرة أو كبيرة لا تنشر ما لايباع. لا أحد يريد أن يخسر. هو يريد أن يربح وهذا حقه الطبيعي والمشروع. اما الرعاية والتشجيع فهذا من مهمات المنظمات والنقابات واتحادات الطلاب والمرأة، هي التي تشجع منتسبيها..
 للوزارة مناسباتها الخاصة للتكريم والتشجيع ولا نراها تقصِّر في ذلك وإن كنا نتمنى لها الخلاص من الولاءات والانحيازات على حساب حقائق الفكر والثقافة والابداع. امنياتنا كثيرة والمستقبل كفيل بها.
اسهبنا في الحديث عن موضوعة النشر، لكن هذا لا ينسينا المسألة المهمة الأخرى، وهي مسألة :
الحاجة لإنشاء مسارح غير باهظة الكلف، مسارح شعبية في مناطـــق من بغداد وفـــــي المحافظات.
هذه ستجد إقبالاً من مستويات ثقافية تتناسب ومستوى العروض. وسيصبح لكل مسرح روّاده. حصرُ الناس بالتوجه الى المسرح الوطني يعني احياناً منع الكثيرين منه بسبب المواصلات وصعوبة أو مخاطر الوصول من مناطق متباعدة في العاصمة. كما أن مسرحاً واحداً لا يكفي! هو يمثل مستوى ثقافياً واحداً ومستوى اقتصادياً واحداً او متقارباً.
نحن نعلم أن رواد المسارح مستويات، وكل مستوى له حق في الفن المسرحي كما في النشاطات الثقافية التي قد تفيد من هذا المسرح أو ذاك. كما له الحق في متابعة معارض الرسم في صالة هذا المسرح الشعبي المقترح أو ذاك. لا تبخسوا الناس حقهم في الفنون والآداب وبعيداً عن الارستقراطية في الفن فهذا لا في صالح الفن ولا في صالح الناس.
هل يمكن أن نفيد من انشاء هذه المسارح الشعبية غير باهظة الكُلَف بوصفها ايضاً قاعات للنشاطات الثقافية الأخرى؟ كما للحفلات الموسيقية، بمستوياتها؟ نعم وسيكون لنا مستويات من الروّاد ونكون عممنا الفن والثقافة. شرط واحد هو: أن تكون هذه المسارح الشعبية البسيطة، أو القاعات بعيدة عن الاشكالات الرسمية.
اشرت الى مسألة، هي ركن أساس في التثقيف وفي تهيئة فضاء حديث للدراسة والبحث، اريد الآن التأكيد ثانيةًعليها. اقول: ليست مسألة كمالية ولا هي من ابواب الترف،
وجود مكتبة عامة حديثة متكاملة الخدمات، تسهّل عليك البحث والاقتباس والتصوير. كما أنها مسألة مهمة وجود مكتبة باللغات الاجنبية الرئيسة تُرفَد بالاصدارات الجديدة وبالاتفاق مع دور نشر أجنبية.
فهذا يهيئ جواً للدراسة والبحث والترجمة وللإطلاع على المنجز الثقافي والعلمي في العالم وتجدد مصادر الدراسات.
تجديـــد للصـــــادر يعني الارتقاء بالرسائــــــل والاطاريح ومن ثـــــم، تقــــــدم الاكاديمية في البـــــلاد....
أود أخيراً التوقف لأشير الى الإمكانات الواسعة لشبكة الاعلام العراقية. هذه المؤسسة التي اظهرت حيوية واسعة في الأشهر الاخيرة تجعلنا نعتمد على حيويتها هذه وجدارتها لتقوم بدور مهم في نشر الثقافة، الصحية والفنية والفكرية بعد أن تنتهي الحرب وتستقر البلاد. فإذا رسمت برامج لهذه المهام، وهي قادرةٌ على ذلك، ستؤدي عملاً عظيماً وستقوم بدور تثقيفي ووطني عظيم هي جديرة به..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

نادي السرد في اتحاد الأدباء يحتفي بالقاص حميد الزاملي

مقالات ذات صلة

"لِوِيسْ بَاراغَانْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5852-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي هل بمقدور نوعية <ناتج معماري> محدد أن يؤسس لسمعة معمارية عالمية؟ وهل بوسع <مفردات> معمارية بسيطة ومتواضعة.. ومحتشمة ان تكرس مثل ذلك التمجيد وتضفي ثناءً ومديحاً لمعمارها المصمم؟ وهل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram