TOP

جريدة المدى > عام > وجوه الحب الثلاثون..من أين تأتي شرارة الحب الملتهبة؟

وجوه الحب الثلاثون..من أين تأتي شرارة الحب الملتهبة؟

نشر في: 13 مايو, 2017: 09:01 م

|    6    |
كان على فراش موته في بيته الريفي قرب باريس في الرابع من ايلول عام 1883.، بين غياب وصحو، حين تذكر ما قاله له ذات يوم ليف تولستوي: " هل عشت حياة تعيسة ام سعيدة؟". لا تناقض بين التعاسة والسعادة بالنسبة اليه، لك

|    6    |

كان على فراش موته في بيته الريفي قرب باريس في الرابع من ايلول عام 1883.، بين غياب وصحو، حين تذكر ما قاله له ذات يوم ليف تولستوي: " هل عشت حياة تعيسة ام سعيدة؟". لا تناقض بين التعاسة والسعادة بالنسبة اليه، لكن ايفان تورغنيف تـــساءل في تلك اللحـــظة القصوى ما إذا كان في حياته إنسان سعيد. الآن هو يشرف على الموت ويقول إنه كان سعيداً جداً.
يتذكر انه قبل ثلاث سنوات نزل ضيفا على تولستوي، وبينما كان يجلس لتناول طعام العشاء معه، سأله تولستوي: لِمَ لم تكتب شيئا منذ زمن طويل، في تلك اللحظة أدار تورغنيف وجهه وهو يقول: " حسناً سأخبرك، انا ما صرفت بالي إلى كتابة شي، إلا وكانت حمى الحب تهزني!، كانت لي قصة غرام منذ أيام، هل تصدق اني وجدتها مملة " فصاح تولستوي:" وآه ليتني كنت كذلك ".

تذكر انه في شبابه كتب مسرحية " شهر في الريف " وفيها نجد البطل بيلياف وهو شاب يتخيل الحب سعادة عظيمة فيجيبه راكيتين وهو رجل في الثلاثين
راكيتين: أدام الله عليك هذا الاعتقاد السار، انني أومن يا ألكس نيكولاتيش بان الحب بكل انواعه، سعيد كان او غير سعيد، هو مصيبة كبرى، إذا استسلمت له استسلاماً تاماً..انتظر قليلا ستعرف اي كراهية مشتعلة تكمن تحت أشد الغرام! ستذكرني عندما تحن الى السلام، أشد ما يكون السلام ركودا وتفاهة، كما يحن الرجل المريض إلى الصحة، عندما تحسد كل رجل حر خالي القلب ".
لكنه بعد هذه المسرحية بثلاثة أعوام، قادته قدماه الى دار الاوبرا الإيطالية في باريس، ليشاهد مسرحية غادة الكاميليا، في صحبة صديقه الأديب الفرنسي الشهير " الفونس دوديه "، كان قد قرأ منذ سنوات رواية دوماس الابن " غادة الكاميليا "، وقد التقى المؤلف يوما في بيت غوستاف فلوبير، فحدثه عن بطلة روايته الفتاة مرغريت غوتييه، التي كانت تأمل أن يعطيها الحب طهراً تتوق إليه. وكانت في منامها تتخيل أن الحب يدوم إلى الأبد، لكنها لم تتصور انها ستضحي في النهاية بنفسها وبحبها من أجل سعادة وسمعة ومستقبل محبوبها الشاب الغني "آرمان".
أعاد تورغنيف في ذهنه أحداث رواية دوماس الشهيرة، قبل ان تفتح ستارة المسرح، ثم بدأت الموسيقى تعزف وما هي لحظات حتى ظهرت على المسرح بولين فياردو، كانت في الثلاثين من عمرها، فتاة خارقة الجمال، قلما يستطيع رواد المسرح مقاومة فتنتها الساحرة، كان وجهها جذاباً، أما عيناها فتلمعان بنظرات لاسعة كالسياط.
سيكتب تورغنيف عن تلك الليلة في يومياته: "رأيت بولين على المسرح لأول مرة، أجمل وأروع امرأة في الوجود، أحسب أنني لن أنظر إلى أي امرأة بعدها".
ظل تورغنيف محتلاً مقعده الأمامي في دار الأوبرا، حتى بعد ان اطفأت انوار المسرح وغادر المتفرجون، كان ماخوذاً، انتبه الفونس دوديه لصديقه الروسي، فوجده صامتا وكأنه مسحور: كنا نجلس في قاعة الاوبرا وكان صوت مغنية الاوبرا بولين يتردد في اجواء المسرح ووجدتني التفت الى تورجنيف فأجده ساهما فقلت له
- وانت ياتورغنيف ماذا تقول عن هذه الاوبرا؟
• انا لا أفكر في موضوع غادة الكاميليا..ان احداث الرواية تترأى لي من بعيد ملفوفة بظلال بولين وهي تسحر كل من نظر اليها.
وحين طلب منه الفونس ان يذهبا للسلام على بولين والإشادة بادائها، رفض الاقتراب منها، وقرر ان يعود الى غرفته في الفندق ليكتب السطور الاولى من روايته " الحب الاول ":
" هناك على بُعد خطوات من موقفي، عند منفسح بين شجيرات توت أخضر، كانت تقف فتاة سامقة القدّ، رشيقة اللفتة، في فستان وردي مخطط، ومنديل أبيض على رأسها... وكنت أنظر إليها من جانب، وأراها تنطوي على قدر من الجلال والحنوّ والجاذبية، وعلى شيء من السلطان والسخرية، أكاد فيه أصرخ من الإعجاب والرضى، كنت على استعداد لأنْ أُعطيها العالم.. انزلق سلاحي على العشب، وأنا ذاهل عن كل شيء، سوى النظر إلى هذا القوام الأهيف، وهذا الخصر الهضيم، وهذا العنق المستقيم، وهاتين الذراعين الجميلتين، وهذا الشعر الأشقر، تطل ذوائبه من ثنيات منديلها الأبيض، وهاتين العينين الذكيتين الناعستين، تظلهما رموشها الوطف، وهذا الخد الأسيل تحت تلك الرموش الطويلة.. أيها الشاب. ارتفع صوتٌ على قُربي. أَمِن المباح أن تُحملق على هذا النحو في فتيات لم تتعرف إليهن؟ فانتفضت بالمفاجأة، ولم أحر جوابًا. كان ثمة رجل ذو شعر أسود قصير، يقف قريبًا مني وراء السياج، ويرمقني بنظرة ساخرة، وتلفتت الفتاة في اللحظة ذاتها نحوي، فرأيت العينين الرماديتين الكبيرتين في وجهها الطلق الممراح، وترتعش قسمات هذا الوجه فجأة بالضحك، فتتلألأ أسنانها البيضاء، ويرف حاجباها. فاحمررتُ وأخذت سلاحي من الأرض، وانطلقت إلى غرفتي، تصخب ورائي ضحكات كثيرة، ولكنها بريئة من السوء. ارتميت على السرير مُخفيًا وجهي بكفيَّ، وقلبي في صدري، وشعور بالخجل والمرح في آن يملأ نفسي، وانفعالاتٌ ما عهدتُ مثلها من قبل تضطرب في أعماقي. "
بعد أيام زاره صديقه الفونس دوديه ليخبره انهم سيزورون الممثلة بولين:– دع عنك ياعزيزي هذا الحياء مادمت معجب بها كل هذا الاعجاب، لماذا لا تذهب اليها وتبدي لها أعجابك؟
قال تورغنيف مترددا: يا عزيزي الفونس لقد خُلقت شديد الخجل، ولا أستطيع ان أقدِم على مثل هذه الخطوة.
– هل تحب أن ادعوها لبيتي لتتعرف عليها جيدا؟
• كيف قال تورغنيف بحيرة؟
– أقيم حفلاً على شرفها أدعو إليه عددا من الفنانين والكُتاب.
• كيف أتمكن في حفل كهذا أن أظهر لها مدى اعجابي؟
– هي قرأت لك بعض القصص، وقالت انها أثرت فيها كثيراً.
كانت بولين متزوجة من مدير دار الاوبرا، وكانت تحب زوجها وتحترمه، ولهذا أدرك تورغنيف منذ البداية ان حبه لهذه الفاتنة سيبقى عقيماً، لا أمل فيه، لكنه أصر ان يمضي في حبه لها حتى، وإن لم يخرج هذا العشق عن حدود العاطفة البريئة.
قرر تورغنيف ان تكون باريس موطنه، مادامت هي موطن محبوبته بولين، فانتهى به الأمر ان اشترى بيتا قريبا من منزل اسرة فيباردو ليتمكن من تتبع خطى محبوبته.
بعد اسابيع يلتقي تورغنيف ببولين وجهاً لوجه فتفاجئه بالقول: قرأت بعض قصصك، إن عاطفتك فيما كتبت عاطفة نبيلة بدون شك، لكن اتمنى أن يداعبك الأمل في ان أصبح واحدة من ابطال قصصك. إنني سيدة متزوجة، وفوق كل شيء فأنا أحب زوجي.
 وبعد يومين ارسلت له بيد الفونس دوديه، رسالة ترجوه فيها ان يقبل دعوتها للعشاء في بيتها، وكانت الدعوة مختومة باسم زوجها لويس فياردو.وبعد العشاء قالت له بولين وهي تقدم له النبيذ: بعد أن قرأت قصتك الاخيرة " المغنيان " أعتقد أنك صرت كاتبي المفضل، لاسيما أنني عكفت على قراءة معظم قصصك، ثم نظرت اليه وهي تلاحظ احمرار وجهه واضافت:" لكن عليك ان لاتفرح كثيرا، فهذا لا يعني أنني أحبك يا عزيزي تورغنيف
• من غير المجدي أن أقول لك إني أحبك أكثر من نفسي
– لماذا لا تعتبرني صديقة لك؟
• ماذا افعل بروح الفنان التي تجدك أهم امرأة مرّت في حياته.
– أنت يا عزيزي تورغنيف شديد العاطفة.

****
الحب في وقت لا تتوقعه
بعد هذا اللقاء يجلس تورغنيف ليكمل روايته الحب الاول يكتب:" كانت بكل وضوح حالة حب من النظرة الاولى، فهاهي تسبح نحو القادم الجديد تلاطفه، تدفعها مشاعر رقيقة ".
 سيقدح زناد الحب في وقت لاتتوقعه، هكذا قال له صديقه غوستاف فلوبير الذي يصف بولين بانها كانت تبدو مثل تمثال من الخزف الصيني وقد احتفظ وجهها الفاتن بنظرة العذراء المروعة كانت بولين تهز مشاعر الرجال بصراحتها وباندفاعاتها وبذوقها وبقوة شخصيتها، وفوق ذلك بسحرها وهي تمثل على المسرح.
يكتب غي دي موباسان:" ثلاثين عاما من الحب كانت تربط تورغنيف بالسيدة فيادرو الممثلة العظيمة، وقد عاش تورغنيف العازب سنين طويلة في خدمة هذه السيدة حتى انه قرر في الخامس من تشرين الاول عام 1874 ان يشتري قصرا كبيرا يجعل الطابق الارضي سكناً لعائلة فيادور التي ارتبط معها برباط لم ينته حتى اللحظة الاخيرة من حياته ".
يصف موبسان تورغنيف بانه طويل القامة، ضخم الرأس، منتفخ الشفتين، يرتدي أفخر الثياب ويتوكأ على عصا، واذا نظرت في وجهه المهيب بلحيته ونظارته وقبعته المستديرة، حسبته قاضياً، لكنه كان لا يرى إلا في احدى المسارح، لايجلس الا في الصفوف الامامية، طوال الوقت عيناه تترصد حركة الممثلين على المسرح، لايكف عن القلق حتى تظهر بولين على المسرح.. ولد العام 1818 في منطقة الاورال وسط روسيا. وقد درس في جامعات موسكو وسان بطرسبورغ. وبدأ حياته الأدبية بنشر الأشعار في العام 1838، ثم توجه ليكمل دراسته في برلين، قد فقد ابوه عندما كان في السادسة عشرة من العمر، وكان أبوه شخصا أنيقا لكنه مسلوب الإرادة امام النساء، أما والدته فقد كانت امرأة ثرية لكنها مزاجية، وكان تورغنيف أحب إخوته إلى أمه، ولكنه كان متأرجحاً بين الحقيقة والخيال، ووظل متعثراً في حياته الواقعية طوال عمره بالرغم انه نال نجاحا في الأجواء الرومانسية.

****
الآباء والبنون
حين كتب تورغنيف " الحب الأول" كان في الثانية والأربعين من عمره كما كان في قمة غرامه للممثلة بولين، وايضا في قمة مجده الادبي، فقد كان أول كاتب روسي كبير يعرف المجد في الغرب خلال حياته.
والحب الاول تروى من خلال بطلها الشاب فلاديمير بتروفتش مسترجعاً شريط حياته: " كنت وقتها في السادسة عشرة وقد حدث ذلك في صيف 1833، كنت اعيش مع أبوي وقد استاجرا منزلاً ريفيا لقضاء الصيف، وكنت استعد لدخول الجامعة ولكنني لم اكن أعمل كثيرا، ولم اكن استعجل شيئا، ولم يتدخل أحد في حريتي "، ويروي لنا الفتى بتروفيش قصة غرامه للفاتنة زينايدي.:" وهذه الفتاة الحسناء كانت في ذلك الحين أجمل بنات المنطقة... وكانت مدركة كم تملك من جمال وفتنة. لذلك راحت تجمع من حولها المعجبين والعشاق، تذلّهم، رافعة اياهم خافضة اياهم على هواها، ومن دون ان يرف لها جفن. فهي، في نهاية الأمر، لعوب ماكرة... هوايتها ان يجتمع المعجبون في دارها يبثون لها أشواقهم وحبّهم، ثم تسخر هي منهم بجعلهم يقترفون الحماقات المضحكة ما يسري عنها. و بتروفتش الشاب لا يكون استثناء بالنسبة اليها. فهو ما إن يقع في هواها، حتى ينضم الى فرقة المتحلقين من حولها صاغراً راضياً " وإن كان تورغنيف يؤكد لنا ان حب هذا الشاب صادق، على عكس حب الآخرين الذي هو مزيج من الاشتهاء والإعجاب والرغبة في الامتلاك.
وفي مشهد من أشد مناظر تورغنيف اثارة للعطف نقرأ: " واخيراً سالتني زينايدا: تحبني كثيرا؟ أليس كذلك
فام أجب، وهل كانت ثمة حاجة إلى جواب
فرددت وهي تنظر إليَ كما كانت تنظر من قبل أجل ومضت تقول " نفس العينين وغرقت في التفكير، وأخفت وجهها بين يديها وهمست: كل شيء صار كريهاً إلى نفسي. ليتني ذهبت إلى آخر الدنيا، قبل ان يحدث ذلك، انني لا أستطيع احتماله، لا استطيع التغلب عليه، رباه اني تعيسة، رباه كم انا تعيسة و تطلب منه ان يقرأ لها شعرا، وضغطت زينايدا على يدي، فالتقت عيناي وعيناها، وأحمر وجهها قليلا، رأيت حمرة الخجل في وجهها، فشعرت ببرودة الفزع، لقد جربت الغيرة من قبل، لكن فكرة انها تحب شخصا آخر لم تخطر على بالي إلا تلك اللحظة، رباه إنها تحب".
وكان الحب هذه المرة من حيث لم يكن ليتوقع أبداً: من لدن أبيه. فالأب رجل وسيم ذو شخصية استثنائية، كما يصفه تورغنيف لا يمكن أي امرأة ان تقاوم إغواءه. وإذ تلتقي زينايدي بوالد بتروفيش تقع على الفور في غرامه، وتكتشف انه لا يمكن ان يكون مثل الآخرين ألعوبة بين يديها. وسرعان ما يكتشف الابن بتروفيش العلاقة التي تجمع بين أبيه ومحبوبته، ويعرف ان الاثنان قد هاما ببعضهما:" بدأت أراقب وأصخت السمع كان والدي يصر على أمر ما وزينايدا تمانعه، لكأني أرى وجهها حزينا، جادا، جميلا، عليه سيماء لايمكن وصفها من التفاني، والأسى، والحب، ونوع من القنوط، وكانت تنطق بكلمات أحادية المقاطع، دون أن ترفع عينيها، إلا انها كانت تبتسم في خضوع، ولكن دون ان تستجيب. بتلك البسمة وحدها كنت استطيع ان اعرف زينايدا القديمة، وهز ابي كتفيه، وأحكم وضع قبعته على رأسه، " بعد هذا المشهد يقع القتى بتروفيش صريع المرض واليأس، فقد اكتشف الحقيقة المؤلمة، ويعود الى البيت وقد خيّل اليه انه ميت لا محالة لفرط ما به من جنون الحب وألم الخيبة.
لكن سرعان ما تمضي الايام، ويشفى بتروفيش من مرض الحب، ويعود ليلتقي بأصحابه. ونكتشف معه ان حكاية " الحب الأول" قد مضت بأقل قدر ممكن من الخسائر، ولكن بالنسبة اليه لا بالنسبة الى العاشقين. ذلك انه إذ تنتهي حكاية بتروفيش على تلك الشاكلة، يكون مصير الأب وزينايدا مأسوياً، إذ سرعان ما يقضي الأب صريع مرض مميت، تاركاً لابنه رسالة ينصحه فيها بألا يقع في الغرام أبداً. ويصف لنا تورغنيف مشهد اللقاء الاخير أما زينايدا التي كانت في تلك الأثناء قد تزوجت، فإنها بدورها تموت وهي تضع طفلها الأول... وهكذا فقط تنتهي الحكاية، بهذا الشكل المأسوي.
****
ماذا قال تولستوي؟
عندما حمل تورغنيف مسودات " الحب الاول " الى تولستوي ليقرأها، قال له بعد ايام:" ليس ثمة قصة اكثر امتلاء بالعواطف منها " ويضيف تولستوي انها رواية حب تكشف عن الطبيعة البشرية وغرائزها لقد بكيت وانا أقرأ السطور الاخيرة: " اذكر انني بعد ايام من سماعي نبأ موت زينايدا، دفعني شعور غريب لايقاوم إلى عيادة عجوز مسكينة مشرفة على الموت، كانت تعيش في البناية التي نسكن فيها..كانت تقاسي من احتضارها مر العذاب. لقد تصرمت حياتها جميعا في صراع شديد من اجل القوت، فما رأت قبسا من السعادة، ولا تذوقت قطرة من عسل الحظ، وأذكر انني شعرت انذاك، عند فراش العجوز المحتضرة، بالجزع من اجل زينايدا، وتمنيت ان أصلي لها، ولابي، ولنفسي ".
ويخبره تولستوي انه وجد في الرواية تحليل لشخصية المرأة واستحضار لرائحتها وملمسها وحضورها، وكونها هي إياها، وبرغم رأي تولستوي في الحب الاول إلا انها اعتبرت أكثر روايات تورغنيف سوداوية. إذ فيها نرى الحب في جانبه الأكثر مأسوية، يصوره الكاتب بصفته مرضاً لا أكثر، وفوضى تضرب البشر بطرق مختلفة، وعليهم تفاديها بأي حال من الأحوال. وذلك ما تقوله على أي حال رسالة الوالد الى الى ابنه بتروفيش، وهي رسالة من الواضح ان تورغنيف شديد التعاطف معها.:" اقول لك ايها الشاب، انك طليق لا تبالي بشيء، فكأنك تملك كنوز الدنيا، بل حتى الاحزان تزدهيك وتليق بوجهك، انك تقول وانت واثق بنفسك معتد بها: انظروا إلي فأنا فقط من يعيش، على حين تمضي أيامك ثم تتلاشى، فلا أثر ولا ثمر ويختفي كل مافيك كما الشمع في وهج الشمس، وكما الثلج "
وتورغنيف في الحب الاول يدرس مثل طبيب نفسي مرض الحب بتفاصيله السيكولوجية. وهذا ما خفف من شأن الصراع بين الحب والرفض، وهو صراع تركه تورغنيف في عهدة روايته الاخرى " ليزا " التي تروي لنا قصة الفتاة الجميلة " ليزا " وهي تعيش بانتظار العاشق الذي يملأ حياتها، وحين يبدأ الرجال يظهرون في حياتها، واحد بعد الآخر، نجدها تتعلق بلشاب انساروف صاحب الوجه الشاحب والكلمات القليلة الحاسمة والكبرياء تختلط بالحزن والاسى، لقد احبته، ويوما بعد آخر كانت حرارة الحب ترتفع وتزداد حتى ملأت حياتها واصبح كل شيء فيها ملكا لهذا الشاب لكنه يطلب منها ان تتركه وتجد رجلا مناسبا: " ياحبيبتي انا رجل فقير جدا ولا املك شيئا وصحتي منهارة، ومستقبلي مهدد، لانني مصمم ان اشارك في الثورة،فماذا يمكنني ان أقدم اليك، انني لن اتنازل عن واجبي تجاه بلدي، ولن اتردد في القاء نفسي في نار المعركة الحاسمة من اجل الحرية.لكنها تقرر ان لاتتركه واتفقا على السفر معا وتركت ليزا اسرتها، لقد اختارت حبها واندفعت الى مصيرها المجهول مع الحبيب الثائر، لكن المرض يتغلب عليه ويموت بالسل، فتقرر ليزا مواصلة مسيرته وتكتب رسالة الى اهلها انها لن تعود، وانها ستواصل عمل " أنساروف " الى النهاية، فهذه هي الطريقة الوحيدة لكي يعيش حبها الى الأبد.
****
اللحظات الأخيرة
 عاش تورغنيف معظم حياته صديقاً لعائلة فيادرو، ولم يفارق المراة التي احبها، وقال لغوستاف فلوبير:" لو خيرت بين ان آمرين ان اصبح اعظم عبقري في العالم، شرط ان احرم من رؤية بولين، او ان اصبح بوابا امام بيتها في بقعة نائية من اطراف العالم، لأثرت ان اكون بوابا على ان اكون عبقريا "
وكتب مرة لبولين: " في استطاعتي ان اؤكد لك ان العاطفة التي اشعر بها نحوك، عاطفة لم يعرفها العالم الى الان، ولم يشعر احد بمثلها " وكان المقربون منه يسخرون من حبه الصامت وكان هو يسخر من الذين لايعوفون معنى الحب الصادق:" الاتفهمون ان للحب مقراً في النفوس، ومقراً آخر في الجسد، وحين يلتقيا لايستطيع احد ان يفرق بينهما ".، وبسبب هذا الحب الافلاطوني، أمتنع تورغنيف عن الزواج قائلا لاخيه الاصغر انه يؤثر على الزواج والابناء والعائلة حبه الروحي واخلاصه لمدام فياردو".
وعندما اوشك على الموت، قال لاحد المقربين منه:" ان الموت يريد ان يسطو على كل شيء جميل في حياتي، انه يريد ان ياخذني من بولين "
وفي لحظات احتظاره الاخيرة دخلت عليه بولين الى الغرفة، فنظر اليها نظرة اخيرة ورفع راسه وارتسمت على فمه ابتسامة الرضا والارتياح وتمتم قائلاً ": هذه ملكتي تلقي النظرة الاخيرة على احد رعاياها، ما اكثر الخير الذي صنعتِه في هذا العالم "، احتضنته بولين ولم يستطع احد ان يقنعها بان تتركه لانها لم تكن تصدق ان الرجل الذي اخلص لها طوال اربعين عاما، وكان مثل ظلها، سيرحل ويتركها وحيدة، وما ان ذهبت الى البيت حتى دخلت غرفتها ولم تخرج منها ابدا، ورفضت لقاء اي شخص حتى زوجها، وبعد اشهر تم نقلها ألى المستشفى حيث اكتشف الاطباء ان وفاتها كانت بسبب تناولها نوعا من السم البطيء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

نادي السرد في اتحاد الأدباء يحتفي بالقاص حميد الزاملي

مقالات ذات صلة

"لِوِيسْ بَاراغَانْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5852-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي هل بمقدور نوعية <ناتج معماري> محدد أن يؤسس لسمعة معمارية عالمية؟ وهل بوسع <مفردات> معمارية بسيطة ومتواضعة.. ومحتشمة ان تكرس مثل ذلك التمجيد وتضفي ثناءً ومديحاً لمعمارها المصمم؟ وهل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram