أَنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام، لأن أمّه التي أفاق منذ عام فلم يجدهاوحين لجّ في السؤال، قالوا له: “بعد غد تعود”.. لا بدّ أن تعود..بهذا المقطع من «أنشودة المطر» لبدر شاكر السيّاب، ذكّرني هذا الصباح فيلم « ووندرزتراك &ra
أَنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام، لأن أمّه التي أفاق منذ عام فلم يجدها
وحين لجّ في السؤال، قالوا له: “بعد غد تعود”.. لا بدّ أن تعود..
بهذا المقطع من «أنشودة المطر» لبدر شاكر السيّاب، ذكّرني هذا الصباح فيلم « ووندرزتراك » للمخرج الأمريكي تود هاينس، الذي عُرض صباح اليوم الثاني من الدورة السبعين لمهرجان «كان » السينمائي الدولي، والفيلم عبارة عن رحلة متوازية للجدّة «روز» والحفيد« بين »، تفصل بينهما ما يربو على ستين سنة.
عُرض الفيلم ضمن المسابقة الرسمية للدورة السبعين، والتي تضم 20 فيلماً، ستمر تحت اختبار لجنة التحكيم الدولية التي يترأسها المخرج الإسباني بيدرو آلمودوفار، والتي ستُعلن عن نتائجها مساء الثامن والعشرين من الشهر الجاري.
ويُقام المهرجان بأجوائه الاحتفالية الاعتيادية لكن في ظل أجواء أمنية بالغة الشدّة، أفضت إلى إجرءات تفتيش دقيقة تسبّبت في تعطيل الدخول السلس إلى القاعات وإلى تأخير عروض عديدة عن المواعيد المحدّدة والتي اعتاد مهرجان «كان » على الالتزام بها بدقّة لا نظير لها. في فيلم « ووندرزتراك »، الجدّة روز (وتؤدّيها جوليان مور) تحثّ الخطى في شبابها لاستعادة والدتها التي هاجرت إلى نيويورك وأصبحت نجمة مسرحية وفي السينما الصامتة، فيما يسعى الحفيد «بين » (يؤدّيه الصبي أُواكس فيغلي ) باحثاً عن أبيه الذي لم يتعرّف عليه.
ويبدو ان، الجدّة والحفيد، وكأنهما صورتان لشخص واحد تواجد في زمانين مختلفين، يجمع بينهما الانطواء الكامل للشخصيتين إلى داخليهما، بفعل حالة الصمم، التي أصيبت بها الجدّة منذ الولادة، وأُصيب بها الحفيد إثر ضربة صاعقة ضربته بينما كان يتحدّث بالهاتف.
الفيلم، وهو الحادي عشر في تسلسل إنجاز تود هاينس، نموذج لكيفية صناعة الحكاية الخيالية ضمن واقع معاصر، أضاف عليها المخرج طاقة غيرُ مُترقّبة، أي قدرة الصمت على التعبير أكثر من الكلمة، فما يبدو في الظاهر سلباً للحكاية من عنصرالكلام عبر الصوت، تحوّل إلى إضافة بديعة دالّة على أن «الصمت أبلغ في بعض الحالات من الكلمات ! »، وبأن إيماءة واحدة قد تكفي في أحيانٍ ما لاختزال عصر برمّته.
وقد اقتُبس الفيلم من قصة شهيرة للكاتب برايان سيلزنيك ويمزج فيه هاينس ليس فقط بين زمني الفيلم، نهاية العشرينات، وبداية السبعينات، بل أيضاً بين زمني السينما، أي السينما الصامتة بالأبيض والأسود، والسينما الناطقة بألوان وأزياء وأصوات الستينات والسبعينات.
الصبي «بين » يعيش الآن مع خالته بعد وفاة أمه كنداً بعد أن ترمّلت في ظروف نجهلها. يواجه الصبي الصبي كوابيسَ مخيفة تطارده خلالها ذئاب في غابة مغطاة بالثلوج ، يستكين عندما يُنصت إلى صوت خالته لكن دون ان يستقرّ باله حول مصيره بعد وفاة والدته، وخلال جولة ليلية في منزله القديم يُصاب بصاعقة جوّية تُفقده السمع ويُدخل المستشفى. لا يمكث في المستشفى طويلاً، لأنّه يهرب منها ويتوجّه إلى نيويورك للبحث عن آثار عائلته، وتقوده الاقدار والمفاجآت إلى اكتشافات مثيرة والى لقاء لم يكن أن يخطر بباله تحقيقه ابداً.
فانيسَا ريدغريف ثمانون عاماً من حب البشر ليس يسيراً على أحد ان يُنجز فيلم وثائقي عن قضية اللاجئين بعد عرض فيلم «نار في البحر » لجانفراكو روزي الذي فاز بدب برلين الذهبي وأُدرج ضمن الخمسة المرشّحين لأوسكار افضل وثائقي في الأوسكار في هذا العام، حيث تمكّن هذا المخرج المتميّز من اختزال دراما العصر الراهن في ساعتين من التناول الذي ظهر في النهاية مثل لكمة عنيفة في عنق المعدة وصفعة على وجه جميع من يتعاملون مع قضية الهجرة واللاجئين من منطلق أمني بحت.
ولابد لمن يتناول هذا الأمر أن يحمل جديداً متميّزاً. وهل كنّا ينتظر من قامة رفيعة مثل النجمة الانجليزية فانيسّا ريدغريف، إلاّ ما هو متميّز؟
جاء ما أنجزته السيدة ريدغريف بفيلمها الوثائقي «وجع البحر» الذي عُرض في اليوم الأول من الدورة السبعين للمهرجان متميّزاً، واستقى تميّزه، ليس من نوعية الفيلم بل ممّا وضعته في الفيلم بطاقتها التعريفية والتحريضية الفائقة.
ريدغريف، المعروفة بمواقفها اليسارية والإنسانية الجليّة، لم تُعرْ الصورة أو المونتاج والموسيقى ذلك الاهتمام، بل وضعت نفسها، بحضورها المباشر الى المتفرّج كشاهد على الحدث وباحث عن الحقيقة، واستحثّت الكثيرين، من سياسيّين وناشطين في مجال اللجوء والهجرة للإدلاء بشهاداتهم للوصول إلى حقيقة دامغة، وهي أنّ من يُهاجر ويلجأ إلى بلاد أخرى، لم يكن ليُغادر أرضه لولا أن الآخرين، والغرب بالتحديد، أطلقوا عنان الحروب في تلك البلاد.
ومنذ اللحظة الأولى في الفيلم توجّه ريدغريف أصبع الاتهام إلى الولايات المتحدة لأنها أطلقت عنان الحروب الأخيرة، وباختيارها شهادة شاب أفغاني يروي إلى الكاميرا كيف قتل الجنود الأمريكان أمّه وأباه واضطروه إلى الهرب ما بين رصاصات "جنود آخرين كانوا يكمنون على قمة الجبل”. وحسب تلك الشهادة فإن الجنود قتلوا الأم والأب "لأنني لم أكن أتوقّف عن البكاء بسبب الذعر الذي أصابني عندما رأيتهم يقتحمون دارنا...".
مكافحةً، كماعرفناها، لم تستكن فانيسّا ريدغريف إلى دفء الأرائك لتُريح عظامها من وهن الثمانين سنة من عمرها، بل استجابت لطلب ابنها ماركو غابرييلي نيرو وانتعلت الجزمة الشتائية ووضعت شالها على الكتفين وزارت كل ما يمكن زيارته من مخيّمات اللجوء في اوروبا والشرق الأوسط، انطلاقاً من مخيّم «كالييه» في شمال فرنسا، والذي شهد احتشاد اعداد هائلة من اللاحئين الذين انغلقت عليهم بوابات اوروبا، رُغم توافر مستلزمات اللجوء لدى الكثيرين منهم.
وبرغم انّ ريدغريف لم تستثن أحداً من المهاجرين واللاجئين من اهتمامها، فقد اعتبرت تجاهل اوروبا مأساة المئات من الأطفال والقاصرين الذين تُكتظ بهم مخيّمات اللجوء، مشيرة إلى العالم يجد نفسه اليوم في مواجهة فضيحة كبرى تُبرز عجز المجتمع الدولي عن حل هذه الأزمة الكبرى، لأنه، وببساطة، يعجز عن حل مشكلة الحروب والصراعات المبثورة في اصقاع العالم بأسره.