"2"لاعترف أولاً بأني أقرأ اكثـر من مرة واحدة أي مقولة أو رأي يشير أو يكشف عن مهمة الأدب، عما نسعى اليه في الكتابة الأدبية. ولا اخفيكم اني لا استقبل بترحاب تام آراء النظريين وأفكارهم من الذين لا يمارسون الكتابة الأدبية. يهمني ما يراه هؤلاء الدارسون&nb
"2"
لاعترف أولاً بأني أقرأ اكثـر من مرة واحدة أي مقولة أو رأي يشير أو يكشف عن مهمة الأدب، عما نسعى اليه في الكتابة الأدبية. ولا اخفيكم اني لا استقبل بترحاب تام آراء النظريين وأفكارهم من الذين لا يمارسون الكتابة الأدبية. يهمني ما يراه هؤلاء الدارسون لكني قد احتسب، قد اقارن بالتطبيق العملي أو بالتجربة وأوازن بين ما يقولون وبين فعل الكتابة وحيويتها.
نحن عادةً نقرأ افكاراً منها ما ينظِّم ويضع شروطاً أو يؤكد على ثوابت. ومنها ما يعنى بما وراء الكتابة. هم عادةً يرون الكتابة بعد انجازها وتسويقها. لكن بعضاً منهم، وهم الاقرب ألي، اصحاب تجارب في كتابة الأدب وهم يمارسونه بنجاح. مع ذلك يبتعدون عن أو يتسامون على حقيقة ما يجري.
بعد هذه السنين، التي اظنها زمناً طويلاً، لم اخرج بمسلَّمات ولا اعتمدت نهائيات، سواءٌ في كتابة الأدب أو في متابعته. بل كثيراً ما اتوقف بانتظار اجابة أو حل. مناطق "الوقوف" هذه تستدعي ذكر أو مناقشة ما لم يكن مقنعاً تماماً، أي أن لنا عليه ملاحظات.
أولى ملاحظاتي كانت قريبة من اللافتة التي أضاءها، لكي يراها الجميع، الاستاذ فيتوريني Vittorine الايطالي في كتابه "التوتران" The Two Tensions وهو قول سبق أن قال فيه آخرون، وأن احتفى به ايتالو كالفينو في واحدة من محاضراته. الرأي هو ..
1- ان الأدب شريك للطبيعة.
2- القيمة الحقيقية للأدب تظهر فقط حينما يصبح ذلك الأدب ناقداً للعالم ولنظرتنا لهذا العالم.
ما يزال في القول الأول، الأدب شريك للطبيعة، عوزٌ واضح الى الدقة. صحيح نحن نقرأ حياة ونرى وصفاً وكشفاً للناس وللبيئة وما يقع على الأرض التي تعيش عليها الشخصيات. لكن هذا لا يجعل من الأدب شريكاً الا في اعتبار أن الانسان يعيش في الأدب حياةً ويرى ناساً قد تكون لهم صلة أو صلات بالناس على الارض. لكنهم هنا ناس على الورق. والحياة هنا حياة رسمتها المخيلة للقراءة ووجود ناس الكتابة وجودٌ ظلّي هو اقرب للاشارات في افتقاده للمادية. القارئ ببعض التأمل هو الذي "يربط الأدب ببعض الانشطة الاخلاقية والاجتماعية". نحن في الكتابة مهما اقتربنا نظل بعيدين عن "مصوغات" الحياة وحقائقها الحية. التشابه لا يعني حقائق الاشياء. نحن في الأدب، وبهذا المنظور، نصنع حياةً وواقعاً ونعيد رؤية ما رأينا. نحن نرسم الشخوص ونحن الذين نتحكم بهم وباختياراتهم. وعالمهم هو هذا العالم على هذه الاوراق أو على اوراق أخرى في كتابٍ ثانٍ.
ما دمنا نكتب للصحافة فلابد من ان نظل قريبين من القارئ العام لا الى الفلاسفة أو المحللين. ولهذا نقول عن الادب انه تعبير الانسان عما يريد أن يرى او يريد ان يكشف عما في داخله مما لا يُرى. وهو يرسم ما يريد بلغة الكتابة: جواً، صفاتٍ بدنية، سلوكاً وافكاراً. حقيقة الأمر هو يتحدث عن "الحياة في الكتابة" من خلال الحياة في واقعنا الارضي. فلا يمكن، والحال هذه، تحديد الاغراض من وراء الكتابة بتعبيرنا عنها. فقد تكون "في آن واحد" رغبة في تغيير أو انتقام أو بوح عن مكبوتات شخصية وعامة أو ان الكاتب قاصداً يهيئ لنفسه ولغيره عالماً من رسوم شبيهة، بما نعرف ونرى لكن كما يشاءهم هو أن يكونوا! هو، في كل حال، رسمٌ لا خَلْق.
وهنا نأتي الى الفقرة الثانية وهي أن القيمة الحقيقية للأدب تظهر فقط عند نقده للعالم ولنظرتنا له : مع اجلالي لهذه المهمة، انا لا اراها الوحيدة التي تظهر فيها القيمة الحقيقية للأدب. الانسان المفرد في الكون واجهَ غربته وواجه الغموض ثم صار يواجه الاحباطات واللاجدوى. قبل الكتابة الادبية، كانت لنا رسوم على جدران الكهوف. وفي بدء الكتابة وجدنا تعبيراً عظيماً وكبيراً عن المصائر والموت. وإن في هذه رفضاً للموت واستياءً منه. ويمكن القول هو نقد لوجود، لكنه ليس نقداً للعالم ولا لنظرتنا له واقعاً يومياً، عيشاً ومواجهات انظمة. لا يمكننا اعتبار ذلك "نقداً للعالم" الا بتوسع مصطنع أو بتمحّل. هو ليس لنقد الواقع اليومي وحياة الناس والعلاقات الاجتماعية حسب. قد تكون هذه من مهماته. الأدب بسعة اكبر يهيئ فسحة لنحرر فيها ذواتنا، حياتنا الخاصة ضمن الحياة الكبيرة من خلال اضاءة البيئة وظروف العيش ومن خلال حضورنا الصعب والضروري في الاشتباك اليومي وتقاطع المصائر. بأدب مثل هذا نكون قد كشفنا الحياة ببصيرتنا. وهذا يعني برؤيتنا نحن الناتجة عن ثقافتنا وخبراتنا.
صعوبة الكتابة الادبية تتأتى من كونها كتابة كاشفة ومعبرة عن الانسان في الحياة الكبيرة متداخلة التفاصيل. لا ننسَ أن الأدب مُحمَّل بمؤن قديمة وانساق تعبير وانماط منطق. ولكي ننتصر على هذه أو لكي لا نجعل منها معوقات عمل، نرحب بما يستجد ونصف "النص" الجديد بـ المتجاوِز، أو المتحرر، بالابداع. صفة الابداع ليست للإهداءات الشخصية أو للإبهاج. هي صفة لأدب جديد كشف بامتياز عن ذات وعن حياة وتحرر من اعباء وانماط. هو انتقل الى ما يقنع في زمننا وثقافتنا. ومثلما رأى الكاتب هو حقق، كشف ما رأى باسلوب اكثر جمالاً واكثر نفاذاً وأدق. هو عبّر بتفوق عن العواطف أو الافكار التي انفردنا بها. ولهذا يكون الوعي الجديد في الكتابة هو الطريق الاكثر قدرة على تحرير الوعي الجمعي والذي يعمل على اشاعة ثقافة جديدة نحتاج لها في المعاصرة والتقدم.
مادمنا وصلنا الى المهمة التعبيرية، فلابد من مواجهة، من محاججة بمنطق عقلي وبضرورات فنية، ومن غير الابتعاد كثيراً عن ميراثنا النظري. فلكي نصنع فناً ، كتابةً، رسماً، موسيقى...، لابد من ان نحترم نظاماً. لا لافتقاد الحرية ولكن لكي لا نخسر الفن. لكي لا نتيه. هنا للقصيدة بخاصة كما للقصة، يكون الاطار نافعاً. الهدف هو أن نحقق الحرية في فضاء العمل الفني لا خارجه. التطور هنا يحدث بتطوير هذه الانظمة لا بالتخلي عنها. اما أن نسمع من جَزِع مُعسِر بأن لا مواصفات، لا نظام، لا أية قيود ...، فهذا كلام وراءه جهل بحقيقة الفنون كلها. بلا مواصفات أو بلا انظمة أو بلا أطر فنية للأعمال، كيف نفصل فناً عن فن وكيف نفصل كل الفنون عن الفوضى؟ ثم كيف نفصل الفن في لغة الأدب عن عموم الكلام، بما في ذلك اللغو اليومي في البيت والمكتب والسوق؟
هذا التساؤل أشار لي باستدراك: ماذا نستطيع أن نقول ونحن نرى هذا الانفلات، سمِّهِ التمرد، فلا موضوع ولا بداية ولا نهاية ولا جو يجمع المفردات والافكار؟ هو توالي انتباهات سياسية، فلسفية، اجتماعية، تساؤلات، طرائف، وفي احسن الاحوال خواطر. هي الآن ظاهرة شائعة وتتسع. قد تكون روح الحراك الاجتماعي وراء هذا الانفراط أو هو الهروب من "الاكاديمية" كأيّ طالب يترك المدرسة اذا ضاق ذرعاً بها واراد أن يلهو.. هل ننظر لها، علمياً، بوصفها ظاهرة ستستمر أم هي حالة انفلات وسيحان وراءهما استقرار ونضج؟
هذا ما أميل اليه. كل الظواهر تنتظم بعد فوضى، لتتحرك ثم تنتظم. هو خط التطور. الارباك، اللا انضباط واللا مواصفات ليست صفات أكيدة للفنون.
والحضارة تطورُ انظمة لا الغاءُ انظمة...