1أعرفه كحشرةٍ تحت المجهر، بكل تفاصيله المتناقضة، كاذباً باحتراف، مازحاً بسماجة، أحمقَ باندفاع، نزقاً دون مراعاة، مزاجياً بلا توقف، يتطاير خفيفًا سهلاً امام الاقوياء، وينطلق مارداً ساحقاً على الضعفاء. وكونه الذكر القادم بين خمسِ إناث، نما متسلطاً، مست
حميدة العربي
1
أعرفه كحشرةٍ تحت المجهر، بكل تفاصيله المتناقضة، كاذباً باحتراف، مازحاً بسماجة، أحمقَ باندفاع، نزقاً دون مراعاة، مزاجياً بلا توقف، يتطاير خفيفًا سهلاً امام الاقوياء، وينطلق مارداً ساحقاً على الضعفاء.
وكونه الذكر القادم بين خمسِ إناث، نما متسلطاً، مستبداً، مخدوماً من الجميع.. تلتقي في روحه معانٍ لا اصول لها من الحقد والكراهية.. تختلط في دمائه قسوة الانانية ولهيب العنجهية، فينفث انفاسه غضباً وعصبية على من حوله.. يضمر العداء للجمال خوفاً منه وطمعاً فيه. رسخت أمه قواعد تهوره بتفاخرها المعلن به، وزادها فظاظة تغاضي العائلة، المقصود واللامقصود، عنها.
ولأنه المدلل بيننا، بسبب اختلاف ما بين ساقيه، اعتاد أن يجد الحوض ممتلئاً، نظيفاً وساخناً.. لينزل فيه دون أن يبذل جهداً أو يتعِب ذهناً.
تنقل من بطالة الى بطالة مقنّعة وركب موجة وانزلق من أخرى.. حنث يميناً وشهد زوراً وشرب الحرام حتّى الثمالة.
لاذ ـ لفترة مقتطعة ـ تحت جناح معجبة، تنفق عليه من ميراث أبيها، فيرد لها الجميل احذية تتقاذف عليها مع كل اعتراض أو حركة توحي بالتدخل!
و.. هرباً من فراغٍ طاغٍ يملأ ايامه تسكّعاً وعربدة..
عرج على السياسة واقتحمها موضة وفضولاً، باحثاً عن نصر دون تضحيات ومكاسب بلا تنازلات، فتقمص دوراً لا يناسبه ولبس درعاً قابلاً للتبدل والتلون يثقل وزنه ويلمّع حضوره، فصدقه الساذجون وأيّده المتزلفون وطوّقه الانتهازيون.. وانفتحت لجموحهِ سيقان الباحثات عن فارسٍ أو ثائرٍ أو منقذ، من متزوجات متمردات وأرامل تائهات ومطلقات ضجرات حتى ادركت فتوحاته حصون العذارى والراهبات!
ونحن أخواته الخمس..
خدمنا بلا مللٍ، وسهرنا بلا ضجر.. تحملنا اهاناتٍ لا تليق بصبرنا، وقبلنا بمصير لا يعادل تضحياتنا. بادل اربع منا بصفقاتٍ مريبة.. وتركني رهن اشارته وتحت سياط أوامره، مستكثراً عليَّ حياة مستقلة وراحة متوقعة، بعيداً عن عبوديته.
و.. لكثرة ادعاءاته وسهولة تلوّنه وتعدّد نزواته..
شككت دائماً بنواياه ولم ارتح لتحركاته أو اطمئن لآرائه.. وما خاب ظني أو اخطأ يقيني يوماً، فنما بيننا شعور ـ متبادل ـ يبطنه العداء المتجمد ويغلفه التحامل الصامت.
…
2
كان ميلادي الثامن عشر..
اتابعه وهو يعتلي منصة احتفال.. وشريط ذكرياتٍ اليمٍ يربط بيني وبين مجريات القاعة.
يشمّر عن ساعديه ويشمل الحاضرين بنظرة واثقة:
ـ المرأة، وكما نؤمن، ند للرجل
تنهال كفه على براءة وجهي
ـ وتحرير المرأة ضرورة انسانية وتاريخية
يشدني من شعري ويجرني كلعبةٍ بلا روح
ـ لا أحد يمنُّ عليها بشيء، انها حقوقها المشروعة يلقي بجسدي المنهار في ظلام السرداب بركلةٍ قاضية تشتعل القاعة بلهب التصفيق وصراخ الاستحسان..
يسيل الدم ساخناً من فمي وانفي.. وتطن اذني برنين صفعته وهياج القاعة!
لا لشيء سوى اني رشقت صمت ايامي بلحن، بدا ـ له ـ فاجراً وسط زيف دعواته.
…
3
مرت الأيام وتهاوت الأصنام وتبدلت الأحوال ..
ظننت أنه سيتماثل للشفاء من قسوته وعجرفته.. وسينمحي ذلك التعكر، الجارح، من ملامح وجهه وقلبه.. لكن
ها هو امام جمهورٍ جديد يتقمص دور الورع.. ويهدر ملوحاً بمسبحته..
استمع ومرارة تكتسح حلقي وروحي:
ـ المرأة شيطانٌ رجيم
همهمات تتصاعد..
ـ لا تطمئنوا اليها.. انها كالأفعى
استعاذات..
ـ تلدغك من حيث لا تدري.. فالعنوها!
تتعالى الصرخات..
ـ اللعنة.. اللعنة.. إلى جهنم ..
هممتُ أن اكسر الجبن الذي يتلبسني، بصرخةٍ أو ركلةٍ أو اشعالِ حريق.. لكن فكرة أن جهنم بانتظاري، في كل الأحوال والظروف ـ حسب ادعائهِ وتمنياتهِ ـ حرضتني أن لا اشرح صدره بفعلٍ يريحه، كالانتحار.. سألقنه درساً لا يجرؤ بعده على اعتلاء المنابر.. سأخنقه بشرنقةِ عقدته الازلية، شرف العائلة!.. الذي مرغه بوحل الفسق ولطخه بطين العهر السياسي، وجعلني واجهة لشرف وهمي وراية للتلويح، عند الضرورة..
ـ اشرفُ من الشرف!.. ما دمت أدفن حضوري بين هوان طاعته ورطوبة جدران بيته.
…
4
الساعة تشرئب نحو التاسعة مساءً.. منقبةً، اصعد القطار المغادر، شمالاً، الى بغداد وهالةُ الخوف تهزني، وقلقٌ يصطفق مع دقات قلبي.. روّضه، رويداً رويداً، هدير العجلات وانطلاقي بعيداً.. بعيداً عن سجنٍ هصر طفولتي وقبرٍ ينتظر انطفائي
في بغداد..
لا أعرف شخصاً أو عنواناً أو محطة.. ولا ينتظرني سوى حلمٍ غائم بلقاء شاعر، أو احتمالٍ شديد العتمة باعتناق التسكع..
وحكاية أن انظر الى الوراء.. ركلْتها ـ عند المغادرة ـ بكعب خطوتي المتعنتة!
ها هو المجهول يسحبني بسحرٍ هائل.. يدعم شجاعتي الوليدة ويعزز ثقةً ظلت متخاذلة.. حتى ومضة القرار.
تمتد يدي، لا ارادياً، لتقتلعَ النقاب بحركة ثائرة.. وتلوّح به من خلال النافذة، فيمتزج سواده بظلام الليل وعتمته.. ليفلت مني، هارباً، الى حيث.
خُيّل الي، وانا ازحزح عن عنقي شرف العائلة، أن شيئاً ما يشبه الصحو واليقظة، انعش روحي وهدهد اضطرابي.. لعله رفيف ابتسامة.
و.. لأول مرة، احسّ أن الهواءَ عليلٌ وأن الارضَ فسيحةٌ وأن الليلَ مختلفٌ عن النهار..
امضي، تدفعني لهفة متدفقة، صوب احتمالاتٍ أُخر.. و.. طوفان غامض يجتاحني ويملؤني.. يرفعني خفيفة، مزهوة، كريشة.. اظنه، الحياة بكامل حريتها!
…
5
بغداد هنا.. تُبدد، بكسلٍ، ما تبقى من نعاسِ فجرها وحراس حدودها يتجحفلون سداً امامي، يتبادلون معي صمتاً محتقناً بالاسئلة ونظرات تخترق المسامات وما بعدها. تحضرني خيارات لا مجال لرفضها.. اتمسك بحريةٍ كانت السبيل لهدايتي الى زمن قادم؟ ام أرمي بنفسي قرباناً لتمردٍ حملتُ لوائه خلسة؟ او.. اتهيأ لاحتمالٍ، مفزع، خارج قوس الحسابات!
داهمتني حكاية.. أن انظر الى الوراء.. انشغلت بارتباكي لبرهة حائرة. ايقظتني صفعة المفاجأة، ابتسامةٌ موحية لحارسٍ، لا يجيد الانصياع ـ ادعى انه يعرفني! ـ جرفتني، بجرأتها، لوعدٍ او موعدٍ لا يبالي بالشبهات. احبطتْ ما هو متوقع وبخّرت الاجوبة المنتَظَرة. انحازت لجنوني والغت، باحتوائها لخوفي، تقليدية السير والمسارات. وبغفلةٍ منا ولا وعي منها، شَطَبتْ ـ والى الأبد ـ حكاية أن انظر الى الوراء..
…
6
.. ها أنذا بغوايتي، امشي ـ خبباً ـ نحو زمني.. الذي يبزغ الآن!