TOP

جريدة المدى > عام > أغنية الحروف في اليومي والمعيش

أغنية الحروف في اليومي والمعيش

نشر في: 13 يونيو, 2017: 12:01 ص

 
ابتدأ الاهتمام باليومي وتفاصيله البسيطة والثانوية في التجربة الشعرية العراقية خلال مرحلة الستينات بشكل واضح، وكانت " ياسالم المرزوق "  قد التفتت لذلك بوقت مبكر  ، وكان لهذا الاهتمام آنذاك وظيفة ابديولوجية، بالإضافة لتجربته المتواضعة

 

ابتدأ الاهتمام باليومي وتفاصيله البسيطة والثانوية في التجربة الشعرية العراقية خلال مرحلة الستينات بشكل واضح، وكانت " ياسالم المرزوق "  قد التفتت لذلك بوقت مبكر  ، وكان لهذا الاهتمام آنذاك وظيفة ابديولوجية، بالإضافة لتجربته المتواضعة مع المرحلة السياسية في السبعينات واستقطبت تلك التجربة الشعرية الجديدة، عدداً من الشعراء منهم مهدي محمد علي / عبد الكريم كاصد / مصطفى عبد الله / عواد ناصر.

وقد شكلت هذه المجموعة مشهداً ملفتاً للانتباه. وما زلت اتذكر قصائد مهدي محمد علي عن بائعات الخبز والقيمر في شاعر المكتبات، وعلى الرغم من فك الاشتباك مع التجربة، ظلت ملامحها كامنة في الشعر العراقي ... وشهدت سنوات هذا العقد والنصف الجديدة تجارب شعرية شابة ملفتة للانتباه، ومثيرة للاهتمام مثل سلام داوي، وأمير ناصر، وعلي محمود خضير وعلي فرحان... الخ، لكن وقفت طويلاً أمام أمير ناصر في ديوانه "حروف اسمك" الذي قدم أنموذجاً جديداً للقصيدة اليومية وغير المتوقعة، عبر البساطة، والسهولة، واقتراب اليومي من المألوف والمعيوش مدوناً بلغة مرنة، تذكرنا بالكلام الشفاهي، وتتمثله أحياناً كما في قصيدة "أمك تحبك" بمضونها التقليدي جداً، لكنه مثير للدهشة والغرابة بتوتره المشحون بالتراجيديا، ويتكشف عن مرثية موجعة، جعلتنا في قراءة لها ندنو من الشفاهي المعروف في لحظات الندب والتفجيع. وواجهتنا هذه البكائية بمقطع مستل من قصيدة للشاعرة آمنة محمود (ما ناديتك كي استغيث " هو اسمك يتكاثر في فمي) رسم هذا المقطع تصوراً عن الامتحان الإنساني الصعب أمام فقدان الابن وغيابه فيزيائياً، لكنه باق في اليومي وحاضر في التداول لأن اسمه يتكرر ويتكاثر في فم الأب أو الأم، ولم يكن تكرراته المتتالية نوعاً من الاستغاثة به، بل أن الاسم يتكاثر في فم الأب .
سردية الحزن المبتدأ برسم صورة الخسران للوالدين وهما يجلسان معاً، هي وأنا / كل صباح / مثل دمعتين مالحتين / تتحد لذكراك / أمك تحبك / الراوي ذاهب نحو الأم، على الرغم من انه الذاكرة السردية لحكاية واحدة، تنوعت، ولم تفترق عن النوّية الخاصة بالمرثية. هي تحبه، وكل منهما دمعة مالحة. متشابهان، وتتجه القصيدة نحو الأم " أمك تحبك " وكأن الأب قد اكتفى بها دمعة مالحة. واحدة أن تقول عنها ما يعتقده صادقاً للغاية، هذا في المعيوش، لكنه في الغرائبي واللامعقول مثل الأسطورة، والسردية تقدم لنا مكملة للحكاية الخاصة بالغائب الذي ظلت أمه بعده تلملم ضحكاته الموزعة على الجدران والتي يريدها الأب أن تبقى هائمة في الغرفة ومعلقة على السقف فهو " احكم دونها النوافذ "لأن أمه تحبه وتندب"، لان المساء يضغط بحزن من اجل التذكر، واستعادة المأساة القوية / المريرة، المستعينة بسردية أسطورية، أكثر شيوعاً، من سردية الابن يوسف، أنها مروية يوسف التوراتي والقرآني، وتتعمق طاقة المأساة، عندما تلوذ حكاية النص، بالنص المقدس، وكأن الشاعر زوال لعبة التغاير، عندما استحضر "راحيل" الغائبة والميتة بعد ولادة يوسف، ولابد من ملاحظة هذه المفارقة التي استحضرها نص أمير ناصر حول " أمك تحبك " وعلاقة يوسف بذلك، فالأم غائبة والابن حاضر، مفارقة غير طبيعية اقترحها النص وشحن تفاصيلها بقوة الاستفادة من الأسطوري / والعجائبي المنفتح واسعاً على غير المعروف في الحياة، الذي ابتكره الشعر وأضفى عليه ملائكية، وشفافية. الأم المفجوعة في النص والغائبة في الأسطورة الأولى تعرف باسمه ولا تجد غير أن تملأ "طاسته" بالفراشات. ويذهب الشاعر بذكاء ومهارة نحو أسطورة أخرى، متماثلة بوظيفتها المعنية بالخصوبة في الحياة ، من اجل أن تكون ولا تزول أبداً، تنحرف نحو أسطورة مماثلة لأسطورة يوسف، واعني بها أسطورة يسوع وولادته تحت النخلة، مثلما هو معروف في أسطورته، المتجاورة مع أسطورة يوسف واكتفى منها الشاعر لمحة كافية لاستعادة الأسطورة كلها في ذاكرة المتلقي، يجعل منهما معاً، وسط مكان من الورد وكأن الشاعر مرغم على الجمع بين الورد والفراشات، حتى تكتمل صورة يوسف الأسطورية والأخر المعرف والمرئي، ويعطيه قوة ظاهراتية ذات صلة بالمكان .
مهارة الراوي، استحضرت لنا الغائب، وتمكنت من اختيار رتبة الروي والإعلان عن تفاصيل الحكاية المأساوية التي ما تركت غير نوع من جنون، تحكم بالأم وهي تكرر اسمه، فيتكاثر في فمها لأنها تحبه فقط وما كررت اسمه ندباً وفجيعة. وظلت العلاقة بين الأم وابنها هي اليومي، المألوف والمتعارف عليه، بما توفر عليه من حزن وصدق وتفجع ظل حاضراً في النصوص كلها ، حتى تلك المغرمة بغائب، متخيل أو غائب مستدعى. والمثير في هذه النصوص سيادة الغياب بوصفه سردية واحدة، تنوعت في النصوص، لكنها متآزرة مع بعضها لترسم مشهداً اقوى مرارة وقسوة، لأن كل الغيابات المتناثرة في النصوص موجعة، القريبة والبعيدة، حتى نصوص الحب فارقت هوس الدنو من أنثى غائبة ورائحة الرثاء، وكأن الشعر محكوم بالندب باعتباره صوتاً خاصاً بالإنسان، يتعرف عليه الآن أو بعد سنوات.
المثير في نصوص أمير ناصر، قصدية الاختيار للنص الأول والأخير وأيضاً نص تظهير الغلاف، لتكون معاً مكملة قوية لنص غياب الابن يوسف والذي كانت وظلت أمه تعلن عن حبها له المرثية قائمة، لها حضور حاضر وستذكرنا بالغياب الذي امسك به الشعر والسرد.   

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

نادي السرد في اتحاد الأدباء يحتفي بالقاص حميد الزاملي

مقالات ذات صلة

"لِوِيسْ بَاراغَانْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5852-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي هل بمقدور نوعية <ناتج معماري> محدد أن يؤسس لسمعة معمارية عالمية؟ وهل بوسع <مفردات> معمارية بسيطة ومتواضعة.. ومحتشمة ان تكرس مثل ذلك التمجيد وتضفي ثناءً ومديحاً لمعمارها المصمم؟ وهل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram