TOP

جريدة المدى > عام > عن ذلك العالم الخفي..ملاحظات فـي أدب الاعتراف

عن ذلك العالم الخفي..ملاحظات فـي أدب الاعتراف

نشر في: 18 يونيو, 2017: 12:01 ص

لكتابة المراسلات الصحفية وكتابات السيرة واليوميات مذاق قاص مثلما لها اهمية تزداد يوماً بعد يوم وتحقق حضوراً ملفتاً في السوق الادبية، فازداد بها ترحيب دور النشر. للموضوعات التقليدية اهميتها ولكنها، عدا بعض من الروايات، فقدت الإثارة الشديدة التي كانت،

لكتابة المراسلات الصحفية وكتابات السيرة واليوميات مذاق قاص مثلما لها اهمية تزداد يوماً بعد يوم وتحقق حضوراً ملفتاً في السوق الادبية، فازداد بها ترحيب دور النشر. للموضوعات التقليدية اهميتها ولكنها، عدا بعض من الروايات، فقدت الإثارة الشديدة التي كانت، اعني الاثارة الشعبية الأوسع مدى.

والسبب في رأيي ليس طول الالفة وكثرة الروايات ولا ضعف اهمية الأدب التقليدي المعروف ولكن اليوميات وكتب السيرة والمراسلات تزوّد القارئ بالمخفي. هي، وبخاصة السيرة، تستجيب لحاجة الناس الى النفاذ وراء المرئي ووراء ما تتداوله او تعلنه الاخبار. هنا نعرف ما وراء الاحداث وما وراء حياة الاسماء الكبيرة كما الناس العاديين. فثمّة ما يثير الدهشة ويكشف سراً وراء هذه الشخصية وذلك الحدث وفي السياسة ما وراء الثورات والقادة وخصومهم من خيوط لا يقول بها التاريخ وتجهله الناس والصحف. أدب الاعتراف الذي يتخلل المراسلات واليوميات والسير ليس جديداً. القديس اوغسطين ورنيفون وقيصر تركوا كتابات مقنعة فيها البطل أو الكاتب هو الذي يقول ما عنده. هنا المتّهِم والمتَّهَم شخصية واحدة هي التي تروي. القادة المنتصرون، جنرالات حرب أو مؤسسو امبراطوريات أو مبشرون بعقائد، يهمهم أن يرووا للناس ما يخفى عليهم. كما أن القادة المندحرين والسياسيين المدانين والمتهمين بالكفر أو الزنادقة والكافرين حقاً، هؤلاء ايضاً يحتاجون لإعلان دفاعاتهم أو قناعاتهم أو مواجهاتهم وما رأوه وتواروا عنه. بعض المعترفين عشاق واصحاب آمال كبيرة، بعضهم فقراء لا يعرفهم احد، تركوا لنا شيئاً نقرؤه عنهم وغادروا، وبعد غيابهم عرفناهم!
لا أحد يستطيع وصف حياة امرئ افضل منه اذا اباح. ولا احد يعرف المخفي افضل ممن رآه. الحقائق الدفينة، العواطف العميقة، او المنحرفة، الوطنية المتطرفة او تلك الخائنة التي لم تظهر، نجدها في ثنايا اليوميات او المراسلات ونجدها اكثر وضوحاً وارسخ شكلاً في كتابات السيرة.
الحياة الشخصية، اعني داخله الحقيقي، لشخص ما معروفة له وحده، فإذا كشفها، فهو اما لكي يدينها من بعد كما فعل جات جاك روسو الذي قال لنا بعد أن رواها: انا الان اكرهها، ووراء ذلك سببان سبب حقيقي أنه احس بارتكاب اخطاء وأما ليحافظ من بعد على حسن سيرته لما تبقى من سني عمره ولما له من علاقات اجتماعية ومصالح. لكنَّ في هذا افتقاد للحرية اذا لم يكن نضجاً ثقافياً وتحولات فكرية. المهم روسو بعمله هذا وصف حياته وهو يعيشها ثم تحدث عنها وهو يراها من بعد. فهو، يُجمل العملين، وصفَ نفسه وأراد ألا يُرى!
بهذا، هو لامس المشكلة المركزية لأدب الذات أو أدب فتح القلب كما يسمونه. علينا في كل حال ألا ننسى اهمية الكشوفات الشخصية في الأعمال المهمة التي شهدها الأدب العالمي وكتب التاريخ ويوميات الفنانين والساسة واصحاب المهن، بخاصة تلك الاعمال التي تجرأت على اعلان المخفي عن الناس والحياة. ما نخشاه، ما نخاف أن يكشف من استثناءات سلوكنا وما فيها من محرمات أو اخطاء، وجدنا غيرنا يشاركنا بمثلها ولسنا، كما نظن، الوحيدين فيها. إذاً، اتسعت المشاركات الانسانية في ما لا يُباح، حباً أو خيانة وما كان من صدق ضاع وكذبٍ استُثْمِر!
يمكن الافادة ايضاً من مثال اندريه جيد، فهو مثل روسو كان طهرانياً بيورتانياً، يعيش في محيط كاثوليكي وامضى ستين سنة، عبر يومياته، يتابع بحميمية تاريخ الروح. هذا ما نحس به ما تقرؤه في يومياته بوضوح حدّ اللمس! وعموماً كان يحدثنا بهدوء وقهوته على المنضدة، كما يقال.. توصف يوميات جيد كما لو كان يكتبها وراء حائط زجاجي شفاف فهي تُقرَأ، قبل ان يجف الحبر.. مع ذلك هو يقول في مقدمته:" في الصورة التي رسمتها لنفسي، ثقب، حفرة صغيرة، هي مكان القلب!". هذه الحفرة ملأنها الدراسات والتعقيبات بعد موته.. واضح أن هناك صلة، هناك خيطاً من نسيج روسو. كلاهما لـه رأي في سيرته. واحد ادانها وواحد قال بأن ما في قلبه ظل في قلبه ومضى معه. مع ذلك قال عنه "دو جارد": لم يسبق أن ملأ احد جوف تمثاله باعترافات حميمة قبل أن يموت. بالنسبة لجيد، غيره قام بذلك بدلاً عنه!
علينا الاقرار أيضاً بالمباراة الشريفة في جمال الاساليب عند ادباء فرنسا الكبار، تلك الاساليب الناضجة والمثيرة التي يحتفي بها تاريخ الادب الفرنسي، ومنها التي كتبت بها هذه السير واليوميات. كان جيد مصدر وحي للعديد من الكتاب حوله وبعده. جمال الادب جمال اساليب! والاعترافات، السير العظيمة، اعمال فنية بالنسبة للأدب ومراجع وكشوفات بالنسبة لدراسة الانسان والمجتمع والجدوى كبيرة في الاثنين. في الاخير لا استطيع اغفال النزوع الشديد والدائم للناس في معرفة ما يخفى، اسراراً وعلاقات واسباب مجهولة. كشفُ امورٍ كهذه، ومعرفة حياة الناس، جعلا كتب السيرة في واجهات المكتبات تنافس مبيعات الرواية، حتى تكاد تحظى بنصف السوق. ثمّة ملل، وضيق بالاسهاب والتفاصيل. تلك اسباب أخرى افادت منها السيرة فقدمت حقائق وكشفت دواخل الناس مباشرةً وبايجاز. بعض اليوميات صارت فصولاً في روايات. وهذا لاينسينا أن سطوراً في روايات صارت قصائد أو أوحت بدراسات...
ملاحظة أخيرة، في السيرة أو في اليوميات احداث أو حالات في الماضي. في الكتابة، وبعد نشرها، تبقى في الماضي، لكن يصبح لهذا الماضي، لأسباب شتى، حضورٌ خاص فينا...  

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

نادي السرد في اتحاد الأدباء يحتفي بالقاص حميد الزاملي

مقالات ذات صلة

"لِوِيسْ بَاراغَانْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5852-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي هل بمقدور نوعية <ناتج معماري> محدد أن يؤسس لسمعة معمارية عالمية؟ وهل بوسع <مفردات> معمارية بسيطة ومتواضعة.. ومحتشمة ان تكرس مثل ذلك التمجيد وتضفي ثناءً ومديحاً لمعمارها المصمم؟ وهل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram