الأربعاء، 16 إبريل 2025

℃ 19
الرئيسية > أعمدة واراء > رصاصة هتلر

رصاصة هتلر

نشر في: 9 نوفمبر, 2012: 08:00 م

شاكست مرةً أستاذة في الأنثروبولوجيا، كانت قد سألتنا عن الفرق بين العلوم الإنسانية والطبيعية، وكانت ترمي لتفضيل الإنسانية على الطبيعية كون الأولى تدرّس الإنسان، وتنشغل بقضاياه، لكنني فضلت مقاطعة هذا المسار عندما أجبتها بأن الفرق يكمن في أن الدراسات الإنسانية لا تستحق أن تسمى علوماً كما هو الحال مع الطبيعية.. وما أن أتممت كلامي حتى هب زملائي الحاضرون للدفاع عن "عشيرتنا التي ننتمي إليها" أقصد الأنثروبولوجيا، وما يلحق بها من علوم اجتماعية، وانهالوا عليّ بما يثبت علمية مجال تخصصننا، وبينما استمتعت بالحجج المتينة التي طرحوها أخبرتهم والأستاذة المحاضرة بأن الغرض من مشاكستي هو؛ الحرص على التواضع أمام الموضوع الذي ندرسه، فلن تستطيع الدراسات التي تتخذ من الإنسان موضوعاً لها أن تجاري في منجزها ما أنجزته العلوم التي تدرس الطبيعة، إذ الإنسان هائل وخطير، هو موضوع مراوغ ولا يسهل الإمساك بخيوط لعبته، لذلك لم تنجز العلوم المعنية به أي نظرية تحصي الأسباب التي تقف خلف أي ظاهرة من الظواهر الاجتماعية.. أما العلوم الطبيعية فقد فعلت ذلك لأن موضوعها يسهل إمساكه وحصره بفضاء المختبر ومقاييسه وأجهزته.
بعد أن انتهت المحاضرة، خرجت وأنا أعدُّ لنفسي الفخاخ التي أوقعنا بها غرورنا المعرفي، ووجدت ساعتها أن فخ التاريخ من أكبرها وأشدّها خطورة، فقد أوهمنا أنفسنا، بأننا قادرون على رسم المسارات الدقيقة التي سارت عليها الأحداث التي تعالج قضايانا المقدسة، بينما نحن لا نملك عن هذه الأحداث سوى مجموعة فضفاضة من التخمينات والتوقعات الغائمة والضبابية.
تابعت قبل أسابيع تقريراً تلفزيونياً وثائقياً يتحدث عن فشلٍ وقع فيه مجموعة من الدارسين الذين حاولوا إثبات الطريقة التي مات وفقها هتلر ومكان جثته. عجيب -حدثت نفسي- إذا كان هتلر، الشخصية الأبرز في وقته، قد مات قبل أقل من مئة سنة، وسط مجتمعٍ يحرص على توثيق أحداثه، على الأقل المهمة منها، ومع ذلك يصعب معرفة التفاصيل الدقيقة لحادثة موته، فكيف نعتقد نحن بأننا قادرون على معرفة التفاصيل الدقيقة لأحداث حدثت قبل آلاف السنين؟ ثم نبني على هذه الدقة المدعاة عقائدنا المقدسة، ثم نتقاتل بيننا في الدفاع عن هذه العقائد؟
الدراسات الإنسانية ليست علوماً لأنها عاجزة عن تحقيق الدقة العلمية، وهي مغرورة لأنها لا تعترف بهذا العجز، وعجزها وغرورها مكلفين جداً. لدينا الكثير من المختصين بالتاريخ، لكن قليلاً منهم من يصارحنا بمستوى الدقة الذي تتمتع به رؤيتنا لتاريخنا المقدس، خاصَّة وأننا لا ندعي فقط الدقة بتحديد زمان ومكان الحادثة، بل والتفاصيل الدقيقة للحديث الذي دار بين أبطالها، نحن نفعل ذلك دون أن نفحص مستوى الدقة الذي تتمتع به الأدوات التي نستخدمها في معرفة التاريخ، وهو الفحص الذي أجراه دارسو حادثة موت هتلر، فقد شككوا بصدق ودقة رواة الحادثة، مع أن بعضهم أحياء، ونحن لا نفعل مع رواة أحداثنا مع أنهم ماتوا قبل آلاف السنين

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

سيكولوجية تجنيد العقول في الجماعات الارهابية الدينية

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

"الحشد الشعبي"... شرعنة التشكيل بوظائف جديدة

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

العمود الثامن: قائمة المنتفعين

 علي حسين في بلاد الرافدين حزب من المنتفعين يضم عدداً من السياسيين والمسؤولين الكبار ممن إذا أصابت الناس مصيبة لاذوا بالصمت الذي هو في عرفهم أبغض الحلال. ومن المفارقات العجيبة في العراق -بلد...
علي حسين

باليت المدى: كرسي مكسور الساق

 ستار كاووش عندَ لقائي ببعض الناس أفاجئ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشير الى نوع من الكسل واللامبالاة وعدم إيجاد الحلول حتى وأن كانت صغيرة. فرغم إنغماس أحدهم بتعديلِ صُوَرِهِ ببرامج الفوتو شوب كي...
ستار كاووش

(50 ) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياة بين فذيفتين

زهير الجزائري (1) يوم ١٣ نيسان ١٩٧٥ بدأت الحرب من مجزرةً (عين الرمانة). كنّا في طريقنا إلى الجنوب اللبناني حين انقطع بثّ الراديو بين إعلان عن مسحوق الغسيل المفضل لدى النساء العصريات و سيكارة...
زهير الجزائري

التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين: تحديات القرن الواحد والعشرين

محمد علي الحيدري التنافس بين الولايات المتحدة والصين أصبح في السنوات الأخيرة أحد أبرز القضايا التي تحدد ملامح السياسة العالمية، حيث يشتد في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بشكل يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram