تواصل المدى نشر الأعمدة الثقافية، والتي سبق وأن أرسلها الفنان الرائد الراحل سامي عبد الحميد إلى المدى، بغية النشر. والمدى إذ تنشر هذه الأعمدة تؤكد الحضور الثقافي الفاعل الذي كان يميز فناننا الكبير.
سامي عبد الحميد
3-3
ولم نكن نتصور أن يظهر على مسارح بغداد ممثلون يقدمون الدراما الصامتة التي تسمى أحياناً (بانتومايم) وأحياناً أخرى (مايم Mime) ولكن ظهر أكثر من ممثل من هذا النوع نذكر منهم (منعم سعيد) و(محسن الشيخ) وكان لذلك من أبرز المجيدين والمجددين وكانا مع الآخرين معتمدين على موهبتهم بالدرجة الأولى ولم يكن لديهم من يعلمهم ذلك الفن المسرحي الجديد . وربما كان أولئك الممثلين الصامتين قد مهدوا الطريق لما يسمى اليوم (دراما الجسد) أو (الرقص الدرامي) الذي جاء به أواخر التسعينيات من القرن العشرين المغترب (طلعت السماوي) والذي جمع حوله عدداً من المتحمسين لهذا النوع من العرض المسرحي الذي يجمع بين التمثيل الصامت والرقص الحديث وفن الباليه ولغة الجسد والفعل الدرامي.
من كان يتصور أن يعلن أحد المخرجين وهو (صلاح القصب) عن (مسرح الصورة) مطلِقاً هذه الصفة على عروضه المسرحية لنصوص مشهورة لكتاب عالميين أمثال شكسبير وجيكوف مثل (هاملت) و(العاصفة) و(الملك لير) و(طائر البحر) و(الخال فانبا) و(الشقيقات الثلاث) قدمها برؤى خاصة به تختلف عن رؤي مؤلفي تلك المسرحيات. من كان يتصور أن المخرج المجدد (فاضل خليل) يطرق أبواب المسرح الاحتفالي – الشبيه بالمسرح الشامل في عروضه لمسرحيات مثل (جوان موريتا) و(الملك هو الملك) وأن يعيد إخراج مسرحية يوسف العاني (الشريعة) بشكل مختلف عن الشكل الذي قدمها به (قاسم محمد) . ومن كان يتصور أن هذا المخرج الراحل سيطرق أبواب التراث الأدبي العربي فيقدم (أنا ضمير المتكلم) معدة عن أشعار أبرز الشعراء الفلسطينيين ومنهم محمود درويش وسميح القاسم ويقدم (بغداد الأزل بين الجد والهزل) معدة عن المقامات وبخلاء الجاحظ ومصادر تراثية أخرى ثم يتبعها بمسرحية (مقامات الحريري) و(مجالس التراث) .
ومن كان يتصور أن المؤلفة والمخرجة (عواطف نعيم) تعيد تأليف مسرحية جيكوف (أغنية التم) بعنوان (أبحر في العينين) وتعيد تأليف مسرحية لوركا الشهيرة (بيت برناردا البا) بعنوان (نشاء لوركا) وأن تُخرج مسرحية جينيه (الخادمتان) برؤية جديدة .
وفي مجال التجريب نذكر ثلاث مسرحيات قصيرة قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث خلال منتصف التسعينيات من القرن الماضي وهي (الى أشعار آخر) و(الكفالة) و(شكراً ساعي البريد) واعتمدت كلها على تقنية التأليف الجمعي حيث شارك في إعادة صياغة النص الأصلي لها والذي قدمه (عبد الكريم السوداني) من قبل الممثلين واعتمدت أيضاً على تقنية الارتجال حيث سمح المخرج للممثلين أن يرتجلوا أحداثاً درامية ويرتجلوا حوارات لتلك الأحداث خلال التمارين وليس خلال العرض. وتعرضت المسرحيات الثلاث الى ثيمة مشتركة هي استبدال المجتمع القيم النبيلة بقيم أخرى خسيسة إبان حكم تسلطي متعجرف كتم أنفاس العراقيين، واستطاع فريق العمل في تلك المسرحيات أن يتخلص من سوط الرقابة بوسيلة التأويل وليس بالمباشرة في أدانة دور السلطة في تغيير القيم الإنسانية.
وفي أواخر التسعينيات لجأ المخرج (هيثم عبد الرزاق) الى تقنية الارتجال عندما أخرج مسرحية بعنوان (شكراً اعتذر أستاذي) استناداً الى نص أولي كتبته (عواطف نعيم) . وبعد سنوات كرر استعمال تقنية الارتجال التجريبية في مسرحية سماها (مشكلة الشرف الديموقراطي) اعتمدت كثيراً على ارتجالات الممثلين خلال التمارين وأثناء العرض، لا في الحوار فقط وإنما في الحركة أيضاً وقدمها المخرج في الهواء الطلق لا في بناية المسرح التقليدية .
وهكذا فقد حدث التجديد في المسرح العراقي منذ زمن بعيد قبل اليوم.