حيدر عودة
يصف الفيلسوف الألماني "هايدغر" في محاضرة له عن "أصل العمل الفني" عالم العمل الفني: "العالم لا يكون أبداً شيئاً يقوم أمامنا ونتمكن من مشاهدته.
العالم هو دائما اللاشيء، الذي نخضع له طالما ظلت طرق الولادة والموت، النعمة واللعنة، تغيبنا عن الوجود".
ربما كانت صورة العالم هذه تحث الفنان لإقامة عالمه الخاص من خلال عمله الفني، وهو سعي محفوف بمخاطر الوجود ومحاذير الضياع بين المعنى الجوهري للفن وبين غاياته في خلق عالم غير مدرك، بديل عن عالم الواقع المحسوس. فهذا "اللاشيء" غير المدرك، هو ما يدفع بالفنان - صانع العمل الفني وخالقه - لأن يواصل بحثه عن الكمال أو التوازن الذي يشعر أن العالم يفتقد إليه، لكن البقاء عند حدود تلك اللحظة الفارقة بين مغادرة عالم محسوس نحو آخر غير مدرك هي اللحظة الأكثر وضوحاً في تاريخ الفن وحياة الفنان على حد سواء، وقد تتيح لنا قراءة العمل الفني التعرف على تفكير صانعه وتخيل ما لا يمكن رؤيته، كما تسمح لنا بمشاركته متعته وتأويله وتلمس جوهره والبحث عن معانية الخفية، وربما تمكنا من ولوج عالمه الخاص ومعرفة منابع أسئلة الخلق أو الوجود، وإدراك مخاوفه ومصادره الجمالية وجذورها والتأمل في رؤاه العميقة.
قدَّم الفنان "حسين الطائي" خلال العقدين الأخيرين أعمالاً فنية مميزة، بين الرسم والحفر الطباعي "الكرافيك"، وثَّق خلالها تجاربه الحسّية، ونوبات تأملاته ومخاوفه الوجودية، وتفرس في معنى الفن وفي وسائله التعبيرية وتقنيات توصيله، مدفوعاً بهاجس الخلاص لمواصلة رحلته في الحياة وفي الفن حتى نهايتها، وكان لتنقله بين مدن عديدة في الشرق والغرب، اضطر للتوقف عندها أو الإقامة فيها لأوقات مختلفة، مثل: "بغداد، طرابلس، عمان، جزيرة بونهولم الدانماركية، كوبنهاكن، دبلن، باريس، ... وغيرها" الأثر الواضح على تطور وتنوع تجربته الفنية ونظرته الجمالية، فكان في كل رحلة يتأمل في حياة المدينة ويومياتها، محاولاً كشف مخابئ أسرارها، أو ينشغل في التقاط أشياء مهملة عالقة بين حركة الناس وسكون الأمكنة، قبل أن تنسى وتختفي ملامحها، كأنه يلوّن صور رحلته مرة أو يحفر أخاديدها على النحاس أو الخشب ويغمرها بلون داكن مرة أخرى، قبل أن يؤطر مشهدها الفريد.
لا بد أن الفن، كمفهوم، تعزز أكثر في مجتمعات أوروبا، نظراً لتاريخه الطويل ووجود وحرية التعبير، إضافة إلى الآثار النفسية والمجتمعية التي تركتها الحرب العالمية الثانية على الإنسان والمجتمع، الأمر الذي أعطى للحركات الفنية والنزعات الوجودية حضوراً عميقاً في أرض المجتمع وعقله. لذلك يبدو طبيعياً أن نرى قبولاً وتبنياً لـ - مفهوم الفن - بقدر أكبر من تلقيه في المجتمع الشرقي. وهذا ما يجعل الكثير من فناني الشرق، الذين يعيشون في أوروبا أو أميركا مسكونين، إلى حد ما، بأسئلة الوجود، حتى أولئك الذين يغرقون بمشاعر الحنين ونوستاليجا الأمكنة الأولى، نراهم يخوضون في تجارب تموء بصور الفن المفاهيمي، لما يمنحه له من تواصل مباشر مع روح الأشياء الخاصة وتأثيرها المباشر. ويبدو لي أن عالم الفنان "الطائي" يهتم بتقديم مواضيع تعنى بمعنى الفن وحضوره ومواكبته للأحداث الكبرى التي تهم الإنسان؛ إن كانت مواضيع وجودية أو صراعات كبرى. من هذا المعنى لا يمكننا تجاهل كمية العتمة، من خلال كثرة استخدامه للألوان الداكنة، سواء في أعماله الكرافيكية أو في لوحاته الملونة، ناهيك عن تجارب "دفتر الفنان"، التي أنجز العديد منها بمختلف المواضيع وبرع في المزاوجة بين روح الحفر الطباعي والرسم التجريدي، وهذا ما يؤكده كلام الصحفي الإيرلنديAidan Dunne “ "، الذي كتب مرة في جريدة The Irish Times عن أعماله: " إن أعمال العراقي المولد حسين الطائي تستحق التأني والإنتباه والتوقف عند السواد العميق الرنان". بل أنه حتى في لوحاته التي تشع بالألوان نشعر أنها محاصرة أو معزولة عن عالمها، فهو كمن يهبط إلى قاع العتمة لإكتشاف ضوء ما أو إدراك معنى لوجود خفي. لا ننسى أن خبرته في مجال "الكرافيك" كانت سببا في كثافة الألوان الداكنة في الكثير من أعماله، التي تمكنت من التسلل والإقامة المطمئنة في "عين" الفنان، التي هي "ذاكرته" الجمالية لكي تؤطر "عالم" عمله الفني، بتضاد مع العالم الخارجي. فنرى أن جلَّ أعماله تتنفس داخل عتمة تلك الأحبار، وأحيانا تندفع نحو الألوان المجاورة الأخرى، كأن الفنان هو الواصل بين عالم الأمس البعيد وبين عالم آخر منشود يرغب في التعبير عن ذاته.
يتطلب العمل الكرافيكي أو العمل المرسوم لدى "الطائي" جملة من عمليات تحضير، ودراسة وتفكير قبل أن ينتهي منه، تتركز في الحفر على النحاس وبناء طبقات لونية وأشكال تعبيرية وخطوط تتراكم فوق بعضها، وأحبار تُطلى وورق يحضر جيداً، وصور فوتوغرافية لعوالم غابرة تداخلت مع بعضها، أو ظلال حيوات وطبقات أزمنة ملتصقة ببعض، يسعى الفنان لإعادة صياغتها بشكل آخر وتتغير معانيها، لينتهي العمل في مربع ورقي صغير أو في لوحة قماش كبيرة، كأنها عالم كامن في ذاته ولا يشبه ذاته، إلا بوصفه عملاً فنياً. فصورة كل عمل فني هي صورة لمنتجها وصانعها، والعكس صحيح. إن تلك العمليات التحضيرية التي يقوم بها "الطائي" تشبه "الذاكرة الانفعالية" في فن تدريب الممثل عند "ستانسلافسكي"، فهي سطوح شفافة حية يمكن استعادة أية صورة منها ستبدو مناسبة للحظة الآنية التي ينشدها الفنان. وعلى هذا النحو فإن ما تنطوي عليه أعمال "الطائي" من عتمة يمكن أن تنطوي عليه ذاته كفنان، وما نراه في عمله الفني قد لا نراه في سلوكه كفنان والعكس كذلك صحيح، فأينما وجد التماثل بين العمل الفني والفنان وجد النقيض أيضاً.
وعلى نحو آخر، يهتم "الطائي" بالمعرفة والتنوع الثقافي، الذي يكاد أن يكون إحدى المرتكزات المهمة للفن المعاصر، فالفن أيضا يواجه مخاطر العزلة المتحفية والزمنية والأسلوبية، لذلك نرى أن المعرفة بما فيها الفلسفة والفكر السياسي والتواصل مع العلوم والفنون الأخرى تثير الفنان الباحث عن التميز وإثارة الجدل، فالفن كمعنى يتخطى الرسم كشكل تعبيري وحاجة جمالية، فالرسم جزء من عالم الفن بكليته وشموليته، وهذا ما يجعل الجدل حول طبيعته ووجوده ومعناه قائماً ومستمراً مع كل حقبة زمنية ومع كل حدث كبير أو تغيّر في المفاهيم الحياتية. والفنان - صانع العمل - يحركه حدسه الخاص ليرى العالم "اللاشيء"، كما وصفه "هايدغر" يدور في مدار العمل الفني ويتجلى في ذاته كأصل للاثنين معاً: العمل الفني وصانعه، وهذا المنشود "اللاشيء" هو ما يؤسس عليه "الطائي" رؤيته ومنطلقات عمله الفني، وبحثه في العوالم المغلقة والأماكن المعتمة، وقد تتغير أدواته التعبيرية وأدواره المرجوة، فمرة يكون بنية ذاتية تتحرك في مجالها الخاص، ومرة أخرى يكون نسقاً في شموليته وعمَّا يفكر به الإنسان وصراعه المستمر لتحقيق ذاته.
جميع التعليقات 2
عبد الكريم فاضل
جمال المقاله من جمال اللوحه نص جميل ولوحات فنيه جميله
حسين ثامر بداي
مقال مهم وعميق أحيي الجهد الرائع