اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > هيتشكوكية مستر ريبلاي الموهوب ما بين الرواية وقوة الإخراج

هيتشكوكية مستر ريبلاي الموهوب ما بين الرواية وقوة الإخراج

نشر في: 13 يونيو, 2024: 12:01 ص

ضحى عبدالرؤوف المُل
يتناغم السرد الروائي الدقيق مع أفكار الشخصية الرئيسة في رواية "مستر ريبلي الموهوب" التي تحولت إلى مسلسل "ريبلي " (Ripley) من قبل المخرج" ستيف زاليان"(Zallian Stevn) لتفعيل قيمة الخيال الإجرامي، بهدوء بارد يتسرب إلى قارئ الرواية الصادرة عن" دار المدى" بترجمة إلى العربية من قبل " رشا صادق" إذ تتخذ "باتريشيا هايسمث " (Patricia Highsmith) من الأسلوب الهيتشكوكي سرداً عقلانياً واقعياً جعلها تبتعد عن مفهوم القتل بمعناه الجاف أو المباشر دون احتيال سردي إن صح القول. لتتعمق بداخل الشخصية ونفورها من ذاتها. لتجعلنا تتعاطف مع الشخصية الرئيسة وهو "توم ريبلي" اليتيم الذي تربى في بيت عمته القاسية جداً على طفل يتيم. لتتركه فقيراً يخدمها دون عاطفة محاط بالمتنمرين الأغنياء. الأمر الذي جعله يبحث عن هوية أخرى لشخصية يُعجب بها كي يبتعد عن" توم ريبلي" أو نفسه المُتعبة من التزوير وممارسة اللصوصية الهادئة بفعل مُتقن، وبتركيز داخلي على تفاصيل الشخصية التي يتمعن بها، ويحفظ أدق حركاتها وإتقان توقيعها الأهم بعد أن يسرق هويتها وإن اضطر الأمر قتلها، وهذا ما أتقنته" باتريشيا هايسمث" في الحوارات الغنية باللقطات التخيلية التي انسجم معها المخرج "زاليان " بهيتشكوكية جمعت الرواية مع المسلسل الذي تم عرضه على نتفليكس في شهر نيسان من هذا العام 2024. فالشخصية المحورية هو" توم ريبلي " الهادئ جداً في التعبير بالوجه والجسد دون انفعالات تتمكن به حتى، وهو يقتل ديكي الشاب المسرف والمستهتر الذي طلب منه والده إقناعه بالعودة إلى أمريكا بعد أن أرسل توم على حسابه الخاص ليقنعه بالعودة إلى عائلته في أمريكا، وبمفارقات غارقة بعدم الرضى عن النفس عند شاب أغدق عليه والده الحنان بعكس توم الذي تربى ببيت عمته القاسية جدا، مما جعله يقتله، ويأخذ هويته ليصبح الشاب الغني ريتشارد الملقب ديكي دون أن تزعزع أركانه هذه الجريمة التي قلبها لمصلحته بسرد بارد مذهل ترحل معه إلى شتى الأماكن في إيطاليا وجمالياتها من مدينة أترابي إلى نابولي وغيرها الكثير من الأماكن الأثرية التي أظهرها المخرج زاليان بأسلوب "باتريشيا هايسمت" بحيث لا تشعر بالفروقات السردية ما بين الرواية والمسلسل بالأبيض والأسود ليتماشى مع زمن الستينيات. فهل هذا يُمثل تحديات كبرى في الجمع بين السرد الروائي والسرد البصري الهيتشكوكي في هذه الدراما التي جمعت طاقم مسلسل "مستر ريبلاي الموهوب " مع "باتريشيا هايسمث" والمخرج زاليان؟ وهل استطاعت رشا صادق التحرر من القيود اللغوية وفروقاتها عبر ترجمتها لهذه الرواية الحافلة بالحوارات الهادئة؟
تصوير سينمائي بالغ الأهمية في إظهار تفاصيل الشخصية وتكوينها النفسي والسلوكي كما رسمتها "باتريشيا هايسمث " في الرواية بحيث لا تشعر بالفروقات ما بين قراءة الرواية والمسلسل الذي قام ببطولته "أندرو سكوت" بدور "ريبلي " المُحتال صاحب الشخصية الباردة غير الأخلاقية المُتكيفة مع المفاجآت التي تحدث بمحيطه الاحتيالي خاصة بعد قتله" ريتشارد غرينليف" المُلقب بديكي المُدلل من أهله والهارب منهم ليدرس الفن الذي فشل فيه حيث تتقاطع خطوط لوحة بيكاسو التي أعجب بها ريبلي مع المعنى الحقيقي للألم والقتل في لوحات كارافاجيو خاصة تعلقه بشخصية كارافاجيو والبحث عن المزيد من لوحاته. فالرواية تتخذ منحى فنياً تشكيلياً مرتبطاً بقوة الحدث ومعناه الذي نفهمه في النهاية المفتوحة التي تركتنا معه أمام لوحة بيكاسو التي سرقها من "ريتشارد غرينليف" واحتفظ بها في شخصيته الجديدة التي رحل بها. ليبقى في أمان الهوية الجديدة التي انتحلها بعيداً عن توم ريبلي ومسترغرينليف " تابع حزم متاعه. إنها نهاية دكي غرينليف، أدرك، لكنه يكره أن يكون توم ريبلي مجدداً، يكره أن يكون- لا أحد، يكره أن يعود إلى عالمه القديم مجدداً، وأن يشعر بازدراء الناس له، وملله منهم". فهل يكره الإنسان هويته ومولده وتصبح هويات الآخرين مطمعاً له؟ أم أن للتربية مسؤولية كبرى في تحديد شخصية السلوك الإجرامي؟
شخصيات مختلفة وكلها لها بصمتها في السرد الروائي وفي المسلسل الذي يجعلك تتمسك بالرواية أكثر، لتعيد قراءتها مرات عديدة من شخصية فريدي المُخنث الذي يلعب دوره "إليوت سومنرو" عبر شخصية توحي بأنه شخص مثلّي بشكل مخفي إلى مارج وهي الممثلة (داكوتا فانينغ) حبيبة ريتشارد غرينليف (جوني فلين) المدلل والمستهتر بوالديه وصولا للمفتش بيترو رافيني الذي يلعب دوره موريتسيو لومباردو- بغرور- جعله يغفل عن رؤية صورلتوم أو غرينليف وبقي يهتم بالظهور الصحفي له عبر صفحات الجرائد، ومن ينصدم في المشهد النهائي عندما يرى كتاب مارج عن أتراني والإهداء لحبيبها غرينليف مع صورة له، ليدرك أنه كان في وهم الشخصية ولم يتحقق من حقيقة الهوية. فالشخصيات هي مفاتيح الحياة وحقيقة تفاعلها في المجتمع من قوة صفاتها الداخلية قبل الخارجية والروائي الحقيقي هو من يستطيع إدراك كنه شخصياته وواقعيتها في المجتمع الذي تنشأ فيه وتعيش فيه أو الزمن الذي يختاره والمكان الذي يريد لشخصياته التنقل ضمنها. فهل الشاشة السينمائية في مسلسل مستر ريبلي هي صفحات لرواية مستر ريبلي الموهوب التي تجعلك تتمسك بها وتعيد القراءة لها عدة مرات؟ أم أنني أبالغ أن هذه الرواية الكلاسيكية نجحت بهيتشكوكيتها أن تدخل الزمن المعاصر وتتجدد بقوة عناصرها الروائية في السرد البصري السينمائي؟
لقطات تصويرية لا يمكن إلا أن تصفق لها، وأن تقرأ الرواية فيما بعد مرة ثانية للثقة القوية التي استمتع بها بطل الرواية، وكأن الحوار الروائي تحول إلى لقطات تعبيرية تصويرية ما بين جمالية الأمكنة التي وصفتها "باتريشيا سميث" والتي التقطها عدسة" روبرت إلسويت" (Robert Elswits) ببراعة عين أدركت قيمة الحوار البصري حتى في لوحات كارافاجيو ولعبة الضوء وارتباطها بالتصوير السينمائي لهذا المسلسل بالأبيض والأسود، وإظهار العمق التخيلي للفعل الإجرامي الذي عاشه "توم ريبلي" بصمت دقيق إن صح القول، وحتى بمفهوم تمثيلي عمقته "باتريشيا هايسمث" بجملة ذهبية في روايتها "إن كنت تريد أن تبدو مرحاً،أو مكتئباً،أو نادماً، أو شجاعاً،أو عميق التفكير، كل ما ينبغي عليك فعله ببساطة هو أن تؤدي الدور بجوارحك كلّها " وهذا ما أتقنه" أندرو سكوت" في لعب شخصية" توم ريبلي" الماهرة بالاحتيال، والحساسة عندما اغرورقت عيناه بالدموع لرؤية الكاتدرائية التي كان يحلم برؤيتها. كما أنه أتقن لغة الحوارات الذاتية قبل أي تحقيق معه كي لا يُخطئ، وبهذا منحتنا هايسمث والمخرج معاً مساحة عميقة لفهم السلوك البشري الاحتيالي بعد أي شئ يقوم به من سرقة مال أو لوحة أو أرض أو حتى حياة لأشخاص تمنى سلب شخصياتهم بينما كره شخصيته المولود بها كيتيم فقير استهزأ به من حوله. فهل الهوية هي الصفات الحقيقية للشخصية قبل أن تكون أسماً مكتوبا في جوازات السفر للعبور والبقاء على قيد الحياة؟
إن تحويل رواية مستر ريبلاي الموهوب للكاتبة باتريشيا هايسمث وتحويلها إلى مسلسل من ثمانية أجزاء يجعلك قادراً على التذوق المختلف سردياً روائياً فنياً سمعياً سينمائيا و- دون مبالغة- في ذلك. بحيث تصبح كل لقطة صورة فنية يمكن دراستها من عدة جوانب، وهي بالأصل مكتوبة في الرواية لإظهار جمالية الأمكنة في إيطاليا ورفاهية المسكن والملبس والأماكن بمختلف تنوعها الدينية والأثرية وصولاً إلى صراع داوود وجالوت لمايكل أنجلو وقصة قتل داوود لجالوت في الفن الإيطالي العريق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد الحديني

    منذ 1 شهر

    مقالة رائعة ورؤية ثاقبة. شكرا جزيلا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

حسن حداد يكتب عن "حسين كمال.. ومصطلح الفن الكبير"

سومر السينمائي تدخل عامها الثاني

فيكتور بيلموندو يلعب دور البطولة في فيلم "هي وهو وبقية العالم":"منذ الصغر، كان هدفي هو التمثيل"

مقالات ذات صلة

حسن حداد يكتب عن
سينما

حسن حداد يكتب عن "حسين كمال.. ومصطلح الفن الكبير"

د. وليد سيفيستحق المخرج المصري حسين كمال أن تقام حول أعماله الدراسات النقدية، فهو أحد أهم المجددين في السينما المصرية، ضمن ما يمكن تسميته بالجيل الثالث من المخرجين، ذلك الجيل الذي توازى ظهوره مع...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram