علي حسين
وأنا أحث الخطى إلى بيت الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس الذي يقع وسط الإسكندرية في شارع يحمل اسمه ، تذكرت الخرابة التي تقع خلف مقهى المربعة والتي كانت فيما مضى بيت الروائي العراقي الكبير غائب طعمة فرمان .
تحولت الشقة التي عاش فيها كفافيس إلى متحف يضم مقتنياته ومخطوطات قصائده التي كتبها بخط يده، وكتبه التي تضمنتها مكتبته الخاصة ، ومكتبه الذي كتب عليه قصائده، وغرفة نومه ، وباقي أثاث منزله . أتجول في غرف المتحف وأتذكر كيف أهملنا بيوت كبار نهضتنا الثقافية ، فمن يعرف اليوم أين كان يسكن جميل صدقي الزهاوي ، وكم شاب يتذكر شخصية مضيئة مثل شخصية جعفر ابو التمن ، فالكل مشغول البال بفيلم المسألة الكبرى .
أنظر إلى قصائد كفافيس التي تم حفظها والعناية بها ، وإلى مخطوطاته وبورتريهاته الشخصية ومكتبته ، وأتحسر على ما ضاع من تراثنا الثقافي وانشغال البعض بالمعارك الطائفية ، وكراهيتهم لكل ما هو وطني وإعلاء شأن المذهبية على حساب الثقافة الوطنية.
قلت لأحد الأصدقاء لا يقدِّر الكبار سوى الذين يحبون أوطانهم.. أتذكر أنني كتبت قبل أعوام عن بيت غائب طعمة فرمان الذي تحول إلى مكب للنفايات، في الوقت الذي نفذت فيه مصر مشروع "عاش هنا"، حيث وضعت لافتات رقمية لتوثيق المباني التي سكنها يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وزكي نجيب محمود ومئات غيرهم.. فتجد المواطن المصري يعرف أين يقع منزل الشاعر حافظ إبراهيم، وفي أي زقاق سكن الشاعر أمل دنقل، هذا إلى جانب متاحف بأسماء طه حسين والعقاد وأحمد شوقي ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، ولو سألت عراقيًا : أين يقع منزل غائب طعمة فرمان؟ وأين يقع منزل عبد الوهاب البياتي؟ وأين كان يجلس علي الوردي؟، لهز يده بطرًا وتصورك مجنونًا.. فهل يعقل أن بلادًا تضم كوكبة من القادة "المؤمنين" تتنازل وتتذكر أدباء وفنانين؟ مثل الجواهري والسياب والأثري وجواد علي ومصطفى جواد وطه باقر الذين لفهم الصمت والنسيان مثلما فعل بابن بغداد وراوي حكاياتها غائب طعمة فرمان ، صاحب النخلة والجيران وخمسة أصوات والقربان والمخاض وآلام السيد معروف والكثير من قصص وروايات كانت ولا تزال السجل الحقيقي لنفوس أهالي بغداد، تقرأ فيها أفراحهم ومسراتهم، أوجاعهم وأحلامهم. اكثر من ثلاثين عامًا مرت على غياب الروائي الكبير وهو ينتظر من بغداد أن تتذكره، ينظر إلى بغداد، وهي تنكره ، وهو الذي ظل طوال حياته أن يكون صحيحًا، وأن يقول صحيحًا، وأن يكتب صحيحًا، وأن يجسد صورة مثقف الشعب الذي يدافع عن المبادئ النقية ويظل نقيًا يقاتل في معركة الحرية من دون أن يكترث للربح والخسارة.
حمل غائب سنواته التي تعدت الستين ورحل بعيدًا، لكن الذاكرة ظلت تجول في شوارع بغداد تصطاد حكايات العراقيين في الأربعينيات وأحلامهم في الخمسينيات وقلقهم في الستينيات وضياعهم في السبعينيات وبؤسهم في الثمانينيات وتشردهم في التسعينيات ونرى بغداد كلما تصفحنا إحدى رواياته، نشم عبقها وأريجها ونحس نبضها في ملامح أبطاله ، فنشعر أننا إزاء شخصية حملت في جوانحها كل أفراح وأو جاع وأحزان العراقيين. ينظر غائب اليوم إلى بغداد فيرى نفسه غريبًا في مدينة يريد لها أصحاب السلطة أن تعيش زمن القرون الوسطى.
جميع التعليقات 1
Khalid muftin
منذ 5 شهور
الإرث الثقافي والأدبي الذي تركه أدباء وشعراء العراق تم طمسه من قبل السارقين والجهلة ومروجي الخرافات والأساطير البالية.