قيس قاسم
بعينٍ نقدية، تتفحّص المخرجة الألمانية، الإيرانية الأصل، سودابي مرتضائي (1968)، ثنائية "نحن" و"هم"، القائمة بين غرب أوروبا وشرقها، والمزعْزعة في العمق لفكرة الوحدة الأوروبية، التي روّج لها الطرف القوي (الغرب)، وقَبِل بها الطرف الآخر، من دون أن يفارقه إحساس بالعجز والضعف، جرّاء الواقع الحاصل بعد سقوط أنظمته الاستبدادية، وظهور قوّة جديدة من غرب القارة، تفرض عليه هيمنة اقتصادية وسياسية، رأسمالية الطابع.
مُنجز مرتضائي يُهيكل ثنائيّةُ الأوروبية، بجعلها وحدة لا ينفصل فيها الفردي عن المؤسّساتي، المرموز إليه في فيلمها الروائي الطويل "أوروبا" (2023) بشركة نمساوية، تحمل اسم القارة نفسه، وتمثّلها مديرة تنفيذية، تأتي إلى ألبانيا وفي ذهنها مشروع واحد: الاستحواذ على مساحات كبيرة من أراضٍ زراعية، تريد تنفيذ مشاريع فيها. مهمتها تفرض عليها لعب دور سيدة أعمال أنيقة ولطيفة، ترغب في مساعدة سكان البلد على النهوض والتطوّر؛ وتتطّلب منها أيضاً إخفاء ما تُبطّن من أفكار ومشاعر.
فكرة الفيلم مطروقة سابقاً. لكنّ أسلوب معالجة مرتضائي لها مختلفة، تتوافق مع خصوصية أسلوبها السينمائي، الذي به تجعل النص الروائي مادة توثيقية، تقارب الواقع. أسلوب سردها يولّد إحساساً عند المتفرّج بأنّه أمام فيلم وثائقي/ روائي في آنٍ واحد. هذا يحصل في فيلمها الروائي الرائع "ماكوندو" (2014)، عندما تحوِّل معسكراً أقيم في النمسا للمهاجرين الشيشان، الهاربين من العنف في بلدهم، إلى مرتع للتسامح ونسيان الماضي. فيه، تُغتَسل الذنوب، ويطلب الجُناة من ضحاياهم المغفرة على معاص ارتكبوها بحقهم. كلّ ما يحيط بمشهد المعسكر المتخيّل يوحي للمُشاهد بأنّه مُصوّر واقعياً، وموثّق سينمائياً.
المشهد الاستهلالي لـ"أوروبا" يظهر فيه رجلٌ يتشبّث بالزجاج الأمامي لسيارةٍ تَقلّ امرأة وسائقها. إنّهما يحاولان إبعاده عنها بالقوّة، لكنّه يظلّ مُمسكاً بها، رغم أنّ ضرباته القوية على زجاجها أدمت يديه، وهذا يوحي بأنّ الواقعة حقيقية وموثّقة بالكاميرا، بينما ينقل المشهد التالي ـ الذي يُظهر المرأة نفسها، الممثِّلة للشركة، توزّع منحاً دراسية على طلبة جامعة ألبانية ـ بأنّه مشغول روائياً، ويُراد به التمهيد للمضي معها في رحلتها إلى المناطق الجنوبية للبلد، بصحبة سكرتيرها ومترجمها.
بمرورها على منازل المنطقة ومزارعها، ومحاولتها إقناع أصحابها البسطاء بالتنازل عنها، مقابل وعود بتعويضات كبيرة، تتّضح معالم شخصية بيتي (تمثيل رائع لليليث شتانجنبرغ). امرأة لا يفارقها الإحساس بالتفوّق على سكّان منطقة تقطنها أغلبية مسلمة من البكداشيين المُتشيّعين، جاءت لانتزاع ملكية أراضيهم منهم، وعليها تريد إقامة مشروع غامض لا تفصح عنه صراحة. مشروع يريد السيطرة على أراضي الآخرين بقوّة الرأسمال الذي تمثّله بيتي، ووفق اشتراطاته تُكيِّف شخصيتها وسلوكها. قدرتها على ارتداء قناع البساطة يفضحه نفورها من مصاحبة أهل القرية، وتمسّكهم بعاداتهم وتقاليد ضيافتهم. تستنكف مصافحتهم ومقاسمتهم طعامهم وشرابهم، ولا تعبأ بقوّة إيمانهم الديني، المانح لهم قناعةً بعيشٍ بسيط، يُغنيهم عن القبول ببيع أراضيهم لها، إلا بمقدار محاولتها الالتفاف عليه لصالح إنجاح مهمتها. وبقدر ما تُظهر من لياقةٍ، تُبَطِّن قسوة ومكراً. فساد سياسيين ألبان يجيز لها الذهاب بعيداً في مطالبها، والتصرّف كأنّها المالك الحقيقي لتلك الأراضي والبقاع، ما يشي بنزعةٍ استعمارية متأصّلة، تتسرّب إلى الخارج من دون دراية منها. كلامها معهم تتحدّد مستويات نبرته وفق موقف الأشخاص من صفقتها: اللين يُقابَل بلين مخادع، والصعب مثل غيتنور (غيتنور غورزي) يلزم معه كلامٌ بنبرة عالية ومُهدِّدَة ومتوعّدة بخسارته كلّ ما يملك.
يأخذ الحوار مساحة مضاعفة من زمن السرد السينمائي، بسبب اختلاف اللغة. الترجمة تأخذ وقتاً مضاعفاً، وتُبطّئ ديناميكية سردٍ يراد لها التناغم والانسجام مع المسار الحياتي اليومي لقرية ألبانية هادئة. من هذا البطء، لا تخاف سودابي مرتضائي، ما دام يوفّر لها روحاً وثائقية، تحرص على وجودها بارزة في نصّها (السيناريو لها أيضاً)، حتّى تأتي متوافقة مع النسق السردي الروائي، تتكفّل براعة التوليف (جوليا دراك) وهندسة الصوت (أتناس تشولاكوف) في إتمام ذلك.
في اشتغالها السينمائي الرائع، لا يتغير المكان كثيراً. تتركه للغرض التوثيقي نفسه كما هو تقريباً. بقايا مشاريع الدولة الاشتراكية الساقطة تستولي عليها "أوروبا" من دون عناء، كأنّها أقيمت من أجلها، ومن أجل مشاريعها التي تُصرّ على أخذ أرض غيتنور منه بقوّة التهديد. تُخيفه بانتزاع ملكيّته لأرضه كلّها، لأنّه كما تقول الوثائق التي حصلت عليها مندوبتها من ساسة ألبان فاسدين، وَرثها من أجداده كأرض مشاع، تعود إلى الدولة، التي لها وحدها حقّ التصرّف بها. تَصرُّفُ مدراء الشركات الغربية كأسيادٍ في مناطق غريبة مردّه الإحساس بقوّة مالهم، وبضعف الآخر المتروك وحده، عاجزاً عن مواجهتهم. فمن لا يقوى على الرفض، يقبل بالعرض المُقدّم إليه، مقابل وعود بعدم مسّ أرضه وحقله.
لم تفِ بيتي بوعدها مع غيتنور، وهو لم يسكت. المشهد الاستهلالي للرجل المتشبّث بزجاج السيارة يُفسّر عناده وردّة فعله على وعود كاذبة، سَلَبَت منه عنوة أعزّ ما يملك: أرضه.
مُجدّداً، تؤكّد سودابي مرتضائي قدرتها على نسج حكايات سينمائية متخيّلة على أساس واقعي، لتجسيدها، تعتمد غالباً على ممثلين قادرين على إيصال روحها بأقوى التعابير الدرامية. هذا حَصل في "أوروبا"، الذي يشي اسمه وحده بمفارقة تزعزع فكرة وحدة القارة المُفترضة.
"أوروبا": رؤية سينمائية تنتقد وحدة أوروبية مفترضة
نشر في: 15 أغسطس, 2024: 12:53 ص