TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "الفوهرر" و"الدوتشي" و"القائد الضرورة"، وتحويل البدعة إلى لاهوت

"الفوهرر" و"الدوتشي" و"القائد الضرورة"، وتحويل البدعة إلى لاهوت

نشر في: 29 سبتمبر, 2024: 12:02 ص

د. حسين الهنداوي

بؤس نظام المحاصصة الطوائفية يلقي بظلاله القاتمة على عظمة معاناة العراقيين خلال الحكم البعثي البائد، ذي الطبيعة الفاشية، والذي جثم على صدورهم لفترة 35 سنة بين 17 تموز 1968 و9 نيسان 2003. لكن بلا ريب، ان ما هو قائم ليس الا نتيجة منطقية للتدمير الذي اصاب كافة المجالات الحيوية للمجتمع ابان تلك الفترة المظلمة، ما أسفر، لدى الجماعات السياسية التي وصلت الى الحكم بفضل احتلال العراق عام 2003، عن إعادة انتاج فكرة مشوهة وموروثة من النظام السابق عن الدولة والوطن.
فرغم اعتمادها المباشر أحيانا على أفكار وطقوس مقتبسة من تجارب فاشية لدول أوروبية صناعية متطورة واستعمارية هي ذاتها كألمانيا وإيطاليا واسبانيا، ظلت التجارب الفاشية التي ظهرت في العالم الثالث ومنها التجربة البعثية، مقيّدة اجمالا بالأحوال السياسية لدولها (شبه المستعمرة او الموضوعة تحت نوع من الانتداب المعلن او المستور، كما هي محكومة بالخصوصيات المحلية لمجتمعاتها المتخلفة والخاضعة لقوى محافظة وتقاليد دينية وثقافية بالية، وبعقم اقتصاد ريعي مربوط بذيل النظام الرأسمالي العالمي الى حد التبعية التامة، وعاجز بالتالي عن توفير أي ازدهار حقيقي مهما كان، وحتى بعد نيل الاستقلال السياسي في الواقع.
صحيح، ان أفكار وسياسات الحركة الفاشية التي ولدت في القرن العشرين ووصلت الى الحكم في ايطاليا والمانيا واسبانيا، تسربت سريعا الى شعوب ونخب واحزاب عدة في العالم كلّه، لكن، "لم يتأّثر بأفكارها احد بنفس القوة التي تأثر لها العرب"، كما لاحظ قبلنا المؤرخ د. سيار الجميل (في مقال مهم بعنوان "الفاشية الاوربية والفاشية العربية: درس مقارن")، وذلك "نتيجة التقاء جملة من عناصرها مع تفكيرهم"، وخصوصا لان "العرب مشهورون بالمفاخرة والمصادرة والمناجزة والمحاسنة والمرافعة والنسيب والاعتزاز بالأصول والاحادية وتربيتهم لدهور طوال على سماع العنتريات وهم تحت حكم المماليك او قسوة الباشوات او هجمة الخانات.. ولذا فقد وجدوا في رسالة الفاشية التي تعد الشعب ببعث الامجاد حلما سعيدا وطيفا نورانيا نتيجة جملة هائلة من المواريث والسلوكيات التي ترّبت ولما تزل تتربى عليها اجيالهم العربية الجديدة من دون ان يجدوا ما لدى الامم الاخرى من امتيازات وآفاق من نوع آخر!"، معتبرا "ان العرب بقوا يجترون طقوسهم ويقلّدون ميراثهم ويتعبدون في ترديد مفاخرهم واشعارهم واساطيرهم وملاحمهم، ويطنبون في تمجيد ذاتهم، ويبكون بكاء الصعب على ماض يعتبرون أنفسهم جزءا منه، والصحيح انه مسيطر عليهم سيطرة عمياء" وهكذا "لقد تلاقت طبائع العرب مع العناصر الفاشية ومبادئها، بعد ان كانت الفكرة القومية للقرن التاسع عشر قد غادرتها اوروبا، ولكنها غدت موضع اهتمام فوق العادة عند العرب في القرن العشرين.. لقد وجدناهم يقدسونها وخصوصا في كل من العراق وبلاد الشام، ثم لحقت بهما مصر على عهد جمال عبد الناصر"!
وبالفعل، لقد اخذ ايديولوجيو البعث، يتقدمهم السوري ميشيل عفلق، معظم ما في التجارب الفاشية الأوروبية من أساليب لا انسانية وبإعجاب وفخر وتطرف، حيث لا نجد في تراثهم المعروف سوى تبرير احكام إعدام لا تستثني احدا، وليال لا تنتهي من هجمات "السكاكين الطويلة"، وممارسات تأديبية متوحشة كقطع صوان أذن الجندي الهارب، ووشم جبهة المنقطع عن الوظيفة، وقطع لسان من يتفوه على "القائد الضرورة" بسوء، وإجراءات عنصرية وقمعية وقسرية ليس التهجير والتعريب والتبعيث ومصادرة ابسط الحقوق والحريات الا ارحمها.
ولقد استخدم الحكم البعثي العنف كتطبيق مباشر لافكار عفلق الذي، وباسم الضرورة القومية، برر استخدام القتل ضد معارضي حزبه لإزالتهم من الوجود كضمان لإزالة نظرياتهم الخاصة، حيث كان صريحا في دعوته الى المبادرة بتصفية خصوم الفكر جسديا وليس افكارهم وحسب. بل قد تصل دعوته تلك الى حدود مدهشة، بقوله: ان "العمل القومي القابل للنجاح هو ذلك الذي يستثير الحقد حتى الموت تجاه أولئك الذين يجدون فكرة مضادة (للقومية). لان من التفاهة بمكان ان يحارب أعضاء الحركة النظريات ويقولوا لماذا علينا ان نهتم بالأشخاص. ان النظرية المعادية لا توجد بذاتها لذاتها، بل تتجسد في اشخاص لا بد من زوالهم لزوالها".
ونتفق مع المؤرخ الكبير حنا بطاطو، ان في هذه الفقرة "انزلاقا الى مرتبة التعصب الأكثر اثارة للرعب، وهو يستدعي الى الذهن الاعمال الوحشية التي ارتكبها البعثيون ضد الوطنيين في العراق عام 1963.
ومن سخريات التاريخ، ان عفلق نفسه انتهى قبل وفاته الى تحوير الايديولوجية البعثية لتصبح تبشيرا بقدسية السلوك الفاشي عبر تأبيد هلوسة "القائد الضرورة" كعقيدة دينية" كما حصل لهلوسة "الفوهرر" و"الدوتشي" من قبل. ومشوهاً الحكمة العظيمة بان "النيل هبة السماء لمصر"، سيقول عفلق في لحظة هذيان بان "صدام حسين هبة السماء إلى الأمة العربية"! معتبرا ان كل ما يفعله الطاغية "جيد للعراق والعرب وكل ما يقوم به هو فضيلة لمجرد انه هو من قام به"، ومقزما الهويتين الوطنية العراقية والقومية العربية الى درجة الإلغاء.
والحال، ان هناك من الدلائل ما يثبت ان النظام البعثي في العراق كان في حقبتيه الأولى (1963) وخاصة الثانية (1968-2003) متقدما بالفعل في سعيه للتنمذج كمثال للدولة الفاشية الحديثة في بلد غني بالقدرات والثروات رغم انه متخلف صناعياً وزراعيا واجتماعيا وريعي الاقتصاد النفطي بشكل تام في آن، وذي طبقات اجتماعية حديثة التكوين وعشائرية الى حد ما حيث تحتل البرجوازية الدنيا، المهاجرة من الريف الى المدينة حديثا بمعظمها، مساحة كبيرة نسبياً في خارطة مؤيديه واتباعه، كما تشكل القاعدة الاجتماعية للنظام البعثي نفسه الذي وجد نفسه مرتبطا اقتصادياً بالنظام الرأسمالي العالمي كـ "محيط" أي كمجرد منتج للنفط واستهلاكي وكأحد "حراس" بوابته الشرقية على حد تعبير كاتب شهير.
ان ما نطمح اليه، هو خوض محاولة جادة وامينة لأثبات، عبر الوثائق والاحداث والدلائل الملموسة، ان ايديولوجية حزب البعث الذي حكم العراق طوال عام 1963 ثم بين تموز 1968 ونيسان 2003، استمدت، عبر عفلق وكتاب مغمورين آخرين، الكثير من عناصرها الاساسية من الايديولوجيات الفاشية الأوروبية السابقة عليها، وانها حاولت تقليدها في كثير من المواقف والاجراءات دون ان تتمكن من التخلص من طبيعة حركة البعث كنتاج لمجتمعات متخلفة في واقع الحال كما تعكسه ممارساتها الجوهرية الفعلية ورغم محاولتها التظاهر بانها حاملة رسالة تقدم لتلك المجتمعات ذاتها.
لقد كان تعميم اقصى الخوف جوهر سلطة البعث، والهدف بذاته الذي ضعته لنفسها، فيما كان الافراط في القتل والمزيد من القتل واحتقار القيم الأخلاقية اداتين متلازمتين في صنع وإعادة صنع العنف وتفعيل دوره في حياة الدولة والمجتمع. وهكذا فالعنف الذي كان ينبغي ان يكون استثناء أصبح القاعدة، كما ان القتل الذي قد يكون استثناءً وكضرورة دفاعية، أصبح أولوية انتقامية متجددة (بيان 13، انفال، مقابر جماعية،..). اذ من المؤكد عمليا ان هذا النهج عزز وادام حكم البعث، لكن هذا الدور الذي بدا ضرورة مرحلية، أصبح منهجا ثابتا حتى بعد تصفية الأعداء سواء من المعارضة الوطنية (شيوعيو القيادة المركزية، الحركة الكردية، وشيوعيو اللجنة المركزية، القوميون العرب، حزب الدعوة الإسلامية..)، او المعارضة البعثية الداخلية (سلسلة الاغتيالات بالرصاص والثاليوم، مجزرة المطار في 1973، مذبحة قاعة الخلد..). وذلك لان التسلط البعثي اسس "قيادته المطلقة" على الجزم المستديم بوجود أعداء شرسين كي يبرر وحشيته غير المبررة في اطار دكتاتورية شمولية لحزب واحد لا يشبه أي حزب، وتحت قيادة زعيم متأله واحد، وحيث كل شيء في خدمة "القائد"، ولا حدود بين الشأن العسكري والمدني، والعام والخاص، ولا قيمة للرفاق انفسهم الا كمكنسة في خدمة الزعيم الذي يفضل من جانبه انشاء ورعاية دائرة داخلية عائلية وعشائرية، وخلق نخبة سياسية واقتصادية طفيلية موالية معتمدا على شبكات زبائنية مقامة على ولاءات هرمية لتعزيز السيطرة على اجهزة المخابرات والقوات المسلحة والفدائيين وعائدات النفط والابواق الاعلامية. فهذه "النخب" كانت بمثابة "حكومة ظل" متحركة تمثل المركز الحقيقي لسلطة القائد. فالعلاقات العائلية والعشائرية كانت حاسمة لاستمرار سيطرته الشمولية الى جانب علاقات ولاء مطلق قائم على توزيع الرعب او المكافآت المجزية.
لا نريد هنا كتابة تاريخ نظام فاشي حكم العراق لفترتين بالدم والخديعة في 1963 وبين 1968 و2003، وبات من اللااخلاقي الاسف عليه. بل مجرد الكشف عبر الوثائق والممارسات والاحداث الملموسة عن حقيقة ان ايديولوجية وممارسات ذلك النظام الذي حطم الوطن تحطيما، استمدت الكثير من عناصرها الاساسية من تجارب فاشية سابقة عليها، وانها حاولت محاكاتها في كثير من المواقف والاجراءات دون ان تتمكن من التخلص من عقليتها ومميزاتها الخاصة بها كنتاج لمجتمعات نصف ريفية متخلفة في واقع الحال رغم انها حاولت التظاهر والادعاء بانها حاملة رسالة تقدم وتطور لتلك المجتمعات ذاتها. ولذا نرى، وبعد ربع قرن على سقوطه، ان فهما موضوعيا للطبيعة الفاشية للنظام البعثي الذي حكم العراق بالحديد والنار لثلث قرن سيساعد أيضا في تفسير الأسباب التي جعلت ذلك النظام يتهاوى كنمر من ورق امام القوات الأجنبية الغازية ودون مقاومة تذكر فيما صعدت الزعامات الريفية على انقاضه، كنتيجة طبيعية لتشرذم الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة ولاقصاء النخب المدنية والمثقفين عن أي دور.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

العمودالثامن: وصية تولستوي

 علي حسين في ملحمته "الحرب والسلام" يخبرنا تولستوي أن نابليون لم يصدر لشعبه بياناً واضحاً ومحدداً لما يجري لقواته في روسيا، ظلت الناس تنتظر بيان النصر فإذا بها تقرأ نهاية مأساوية لمغامرة حمقاء.....
علي حسين

قناديل: بضعةُ أيام في سفالبارد

 لطفية الدليمي قلّما أقرأ أعمال الفيلسوف (سلافوي جيجك) أو أشاهد فيديوهاته. أراه فوضوياً بحركاته وكلماته المنطلقة من فمه كإعصار منفلت: شيء من الفرويدية على شيء من الماركسية ومناهج التفكيك الفرنسية، كلُّ هذا معجوناً...
لطفية الدليمي

قناطر: تعالوا نبحث في الأسباب

طالب عبد العزيز ابتلاع الدولة من قبل الأحزاب ومصادرة القرار السياسي الوطني هو ما جعل العراق ولبنان وفلسطين دولاً ضعيفةً، لا تقوى على مواجهة إسرائيل. الآنَ، وبعد جهنم التي انفتحت أبوابها في غزةَ وبيروت...
طالب عبد العزيز

"الفوهرر" و"الدوتشي" و"القائد الضرورة"، وتحويل البدعة إلى لاهوت

د. حسين الهنداوي بؤس نظام المحاصصة الطوائفية يلقي بظلاله القاتمة على عظمة معاناة العراقيين خلال الحكم البعثي البائد، ذي الطبيعة الفاشية، والذي جثم على صدورهم لفترة 35 سنة بين 17 تموز 1968 و9 نيسان...
د. حسين الهنداوي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram