د. قحطان فرج الله
حراك تشرين في العراق 2019، ليس مجرد احتجاجات شبابية غير مؤدلجة، بل هو نبض قلب العراق الجريح، وهو صوت شجاع انطلق من الصدور المثقلة بالهموم والأمل. في كلّ ساحة، تجد قصة من قصص التضحية والحبّ للوطن؛ حيث تتشابك الأيدي وتتلاشى الفوارق، ويصبح الوطن هو الغاية والهدف. إنه مشهد يجسد الشجاعة النابعة من ألم عميق، وصورة تفيض بالعاطفة والأمل في مستقبلٍ أكثر عدلاً. في ليالي تشرين الباردة عام 19 بعد الألفين، كان الشباب يقفون وقفة لا تنسى، أضاؤوا الشوارع بحبهم للعراق، وتحملوا قسوة الرصاص (والقناص) ليسجل أول رقم قياسي(3) شهداء في ربع ساعة تظاهر!!!! وكان القمع كأنما يجسدون هوية الوطن الجديد مقابل الحبّ للوطن الذي يعلو على كل ألم. كانت عيون الأمهات تراقبهم بدموع خفية، بين خوفٍ وفخرٍ، فكل واحد من هؤلاء المتظاهرين كان يحمل بين جنبيه قلبًا نابضًا بحبّ العراق، مستعدًا أن يضحي بنفسه لأجل حياةٍ كريمة للأجيال القادمة.
(حركة تشرين) لم تكن شخصاً كي نلومه ونبحث عن شطحاته ونتندر عليها… لم يُفرز الحراك في عام 2019 قيادة شعبية أو فكرية تنظيرية أو ميدانية، كي تشكل المركزية المعهودة في الثورات، تشرين مجموعة مطالب وقيم شعبية طرحها قلة من الشبان لا يتجاوز عددهم (المئة) أو أقل هم الذين صمدوا يواجهون (القناص) وحدهم، وكنا نتفرج عليهم من خلال البث المباشر … وبعدها ركب الجميع الموجة!!!! هذه القيم شكلت تساؤلات جوهرية ستظل خالدة حتى يستقيم الحال وتوضع الجياد أمام العربة …سواء رشح من رشح للانتخابات وفاز من فاز وقاطع من قاطع وازيح من ازيح …وشوه وجه هذا الحراك من شوه هذه التساولات الكامنة في ضمير المواطن العراقي واجهتها الكيانات الحاكمة منذ 2003 واجهتها بشكل مباشر في الانتخابات الأخيرة واكتشفت مأساة خسارتها لرصيدها الشعبي بشكل صادم، وسيشرب ثمالة الكأس من يأتي لاحقًا …
ومنها.. لماذا تغولت كيانات ومليشيات على مؤسسات الدولة فاصبحنا في دولة (الطوائف)؟ اين يكمن خلل وفشل عقد ونصف من الزمن، ومن هم المسؤولون عن ذلك؟ اين ذهب المال العراقي المنهوب؟ واين هي كشوفات حساب لكلّ من تسنم منصبًا منذ 2003. (استرداد المال) من أين لك هذا؟ ما طبيعة العلاقة بدول الجوار، وما الفرق بين العلاقات والمصالح المتبادلة وبين (العمالة، والخيانة)؟ التمرد على مفاهيم (المحاصصة) السياسية، والعرقية، والقومية، والحزبية، التي تجعل من الديمقراطية اكذوبة كبيرة. رفع شعار المواطنة، كهوية جامعة لكل الطيف العراقي، مع احترام الهويات الفرعية. التمرد على مفهوم الدين السياسي، ورفع شعار الدولة المدنية التي يُحترم فيها جميع الاديان حتى لا يُستضعف ويُرهب المواطن تحت قداسة الدين. التمييز بين الدين، كمفهوم لا حدود له وبين الوطن المحدود بعقود ودستور وقوانين تجمع كل المواطنين دون التمييز بينهم. من كان يعتقد أنه بالضد من ذلك، فليفتش في جيبه وضميره أولآ، من يبحث عن اسم ليسقطه فسيجد الكثيييير ولكنه لا يستطيع أن يسير في الشارع المحفور دون أن يتعثر، من فاز بمنصب من وراء ذلك وعده انتصارًا، لن يجد حبة دواء في مستشفى يليق بالبشر… شعار نريدوطن شعار سيظل ينبض بالحياة في عروق الاجيال المتلاحقة و في وجدان أمة تحب أن يكون العراق أولآ وقبل كلّ شيء. إنه حب لا يمكن وصفه بالكلمات، لأنه مزروع في دماء العراقيين. حراك تشرين هو قصة عاطفية عن الأمل والإصرار، طيف جديد يعانق سماء العراق برغم كلّ الجراح، وعن وطن يستحق أن يُعاش ويُحب بكل تفاصيله. من ساحة التحرير إلى بقية مدن العراق، كان الحراك أشبه بقبلة على جبين الوطن، رسالة حبّ وعزم على التغيير. في تلك اللحظات، لم يكن المتظاهرون مجرد أفراد بل كانوا روح واحدة، اعتلت وذاقت طعم الشهادة والوطن على يد (خسيس) سياتي اليوم الذي تتوهج فيه هذه الدماء من جديد بحب الأرض وتصرخ بألم الغربة داخل وطنٍ مزقه الفساد والتهميش.