عصام الياسري
يعد التظاهر وسيلة فعالة للتعبير عن الاستياء أو المطالب الجماعية التي قد تكون مهملة أو غير مسموعة في الأطر الرسمية في العديد من الأنظمة، وقد تكون هناك فجوة بين النخب السياسية والجماهير، مما يتيح التظاهر كوسيلة ضغط، للناس، توصيل رسائلهم بشكل مباشر للحكومة أو السلطة الحاكمة للاستجابة لمطالبهم.
غالبا ما نشأت الاحتجاجات في العديد من المحافظات العراقية، سيما الجنوبية، بسبب غياب العدالة الاجتماعية، حيث يعاني أكثر من 70 % من المجتمع العراقي من التهميش أو الاضطهاد أو الفقر، أيضا من البطالة والفساد. كان للتظاهر أن يؤثر لجذب انتباه الرأي العام والسلطات لقضايا شعبية مصيرية مما خلق حالة من "الإجبار المعنوي" لاتخاذ الحكومة إجراءات عاجلة لكنها بقت غير مفصلية.
إن خروج الشباب في الأول من أكتوبر 2019 وما قبله، للتظاهر، أدى إلى أن يعزز من المشاركة المدنية الجماهيرية، ويعكس اهتمام المواطنين بالشأن العام. من منظور فكري، التظاهر، ممارسة فعليه للمواطنة، حيث لا يكون الفرد مجرد متلق للسياسات، بل فاعلا مؤثرا في الحياة العامة. هذا النوع من المشاركة السياسية يعزز من قدرة المجتمع على تشكيل السياسة العامة، ويشجع على مساءلة السلطة. لكنه ـ بالتأكيد ـ سيؤدي إلى تصحيح التفاوت الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية. وأحيانا، إلى تحدي الهياكل الاقتصادية والاجتماعية القائمة التي تعزز الظلم أو التفاوت المعيشي. أيضا، آلية التظاهر من شأنها حشد الطاقات البشرية وتوجيه أنظارها كقوى فاعلة لمواجهة أساليب السلطة والمطالبة بتغيير سلوكها السياسي والإداري. في سياقات كثيرة، الحركات الاجتماعية التي نشأت خلال تظاهرات 2014 ـ 2019 (مثل حركة نازل آخذ حقي وحركة الدفاع عن حرية الرأي والتعبير أو حركة 188 الخاصة برفض تعديل قانون الأحوال الشخصية وغيرها)، كلها، كانت وسيلة للضغط على الحكومات المتعاقبة لتعديل السياسات التي تعتبر مجحفة أو غير نافعة على المستويين، الشعبي والوطني.
إذن، التظاهر هو ليس فقط وسيلة للتعبير عن المظالم، بل أيضا، وسيلة ممكنة لتغيير منظومة الحكم ومحاسبتها امام القانون. فيما الحركات الاحتجاجية التي تنتج عن وعي جماعي عام بعدم الإنصاف تستطيع أن تؤثر بشكل مباشر على القرارات السياسية والاقتصادية التي تعزز التفاوت. ومن الناحية السياسية، يعتبر حق التظاهر إحدى الدعائم الأساسية للدولة المدنية. عندما يحرم المواطنون من هذا الحق، تتعرض الدولة ذاتها للخطر.. بيد أن أنظمة الحكم التي تمنع أو تقمع التظاهرات السلمية تتجه ـ بلا شك ـ نحو "السلطوية الشعبوية"، حيث يتم تقييد الحريات المدنية والسياسية وحظر حرية الرأي والتعبير وحق المواطنة، مما يقود إلى تكريس الظلم الاجتماعي.
في الدول المدنية التي يسودها حكم القانون، يعد التظاهر جزءا من آليات المشاركة الديمقراطية التي تتيح للأفراد والجماعات ممارسة حقهم في التعبير عن آرائهم وتحقيق مصالحهم المشروعة كما يسهم في تعزيز ثقافة النقد والمساءلة، التي تشكل حجر الأساس للديمقراطية الفعالة. من جانب آخر، الحركات الاحتجاجية كانت دائما جزءا أساسيا من تاريخ النضال من أجل الحقوق المدنية. سواء كانت تهدف إلى إنهاء الاستعمار، أو تحقيق العدل والمساواة بين الأعراق، أو الدفاع عن حقوق المرأة، أو حماية البيئة وحفظ الامن والاستقرار. بمعنى؛ ان حق التظاهر لم يكن سلاحا قويا لتحقيق هذه الأهداف، أو مجرد وسيلة للتعبير عن الغضب أو الاستياء، بل هو أداة لإحداث تغيير اجتماعي وسياسي حقيقي.
رغم أهميته الكبيرة، تواجه المجتمعات العراقية تحديات كبيرة فيما يتعلق بممارسة حق التظاهر فقد سعت السلطات إلى تقويض هذا الحق بحجة الحفاظ على الأمن أو النظام العام، الحقيقة "مصالح الأحزاب الماسكة بالسلطة"، وفي بعض الأحيان تم استخدام العنف المفرط من قبل الأجهزة الأمنية لقمع التظاهرات، مما يطرح تساؤلات حول "التوازن" بين حقوق الأفراد وحقوق الدولة التي يفترض أن يستند إليه كلا الطرفين، لاعتبارات وردت في لوائح الدستور ومنها التي تشير إلى أن "الشعب مصدر السلطات". لكن على ما يبدو أن أصحاب السلطة لا يعون أهمية الاعتبارات السياسية والفكرية لحق التظاهر باعتباره يعكس رغبة الإنسان للتعبير عن رفضه للظلم وطموحه للعيش في مجتمع عادل.
في الفلسفات السياسية الكلاسيكية والحديثة، يعتبر الحق في التمرد أو الاحتجاج على السياسات الظالمة جزءا من حقوق الفرد الأساسية لمقاومة الحكومات الجائرة. يعني ذلك، أن حق التظاهر ليس مجرد نشاط سياسي، بل هو انعكاس لروح العدالة والمشاركة المدنية. كما يسهم في إصلاح المجتمع والدولة من خلال تعزيز العدالة الاجتماعية وضمان حقوق الأفراد في التعبير عن مطالبهم ومظاليمهم. كما ويعتبر هذا الحق عاملا محوريا في الحفاظ على التوازن بين السلطة والمجتمع، وفي تعزيز السياسات التي تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة وبناء دولة المواطنة بديلا عن نظام الاستبداد والظلم.