TOP

جريدة المدى > محليات > المكتبات العراقية: منارة العلم تصارع أزمات الماضي والحاضر!

المكتبات العراقية: منارة العلم تصارع أزمات الماضي والحاضر!

نشر في: 31 أكتوبر, 2024: 12:02 ص

 بغداد / تبارك المجيد

على مدى عقود، كانت المكتبات العامة والجامعية في العراق صروحاً ثقافية غنية، تزخر بالكتب والمخطوطات وتستقطب جمهوراً متنوعاً من طلاب العلم والمثقفين. لكن تلك الصورة الشامخة بدأت تتغير تدريجياً، حيث ألقت الظروف السياسية والاقتصادية بظلالها الثقيلة على وضع المكتبات. ومنذ تحوّل إنفاق الدولة من دعم الثقافة إلى دعم المجهود العسكري، تراجع الاهتمام بهذه الصروح، مما انعكس على جودة الكتب المتاحة وتنوعها.
وتواجه المكتبات العامة في العراق اليوم تحديات عميقة الجذور، تفاقمت بسبب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية على مر العقود. يوضح أستاذ العلوم والتكنولوجيا ناصر حيدر في حديث مع (المدى) أن «هذه المكتبات التي كانت تمثل مركزًا أساسيًا للمعرفة في المجتمع العراقي عانت ضغوطًا متعددة، أهمها تحوّل الإنفاق الحكومي من دعم الثقافة إلى دعم الترسانة العسكرية، خصوصًا خلال فترات الحروب والسياسات الشمولية، ما أدى إلى تقلص تنوع الكتب المتاحة وتدفقها، وأثر سلبًا على مكانة المكتبات ودورها في نشر الثقافة».
يرى حيدر أن «هذه السياسات التسلطية لم تؤثر فقط على نوعية الكتب المتوفرة، بل على حرية الفكر والتنوع الثقافي في العراق. فقد أُفرغت رفوف المكتبات من كتب تحمل قيم الحرية والتعددية، مما ضيّق نطاق الخيارات المتاحة أمام القراء، وحدّ من إمكانيات الاستكشاف الثقافي والفكري في البلاد. لقد أُجبر العراقيون حينها على الاعتماد على موارد محدودة، مما ساهم في خلق فجوة معرفية يصعب تجاوزها حتى اليوم».
وتابع: «أحد الأحداث التي تركت بصمة كبيرة على المكتبات العراقية كان غزو الكويت وما تلاه من حصار اقتصادي خانق على البلاد. أدى الحصار إلى عزل المكتبات العراقية بشكل شبه كامل عن العالم الخارجي، مما جعل الكتب والمجلات الحديثة نادرة جدًا، وظهرت صعوبة بالغة في تلبية احتياجات القراء من الطلاب والأكاديميين. في ظل هذا النقص، ظهرت ظاهرة ‹ثقافة الاستنساخ›، حيث لجأ العراقيون إلى استنساخ الكتب وبيعها في أسواق مثل شارع المتنبي، الذي أصبح ملتقى للمثقفين والقراء. هذه الظاهرة، رغم أنها ساعدت في سد الفجوة المعرفية إلى حد ما، إلا أنها ظلت محدودة وغير كافية، وغالبًا كانت تحت رقابة النظام آنذاك، ما جعل الحصول على المعرفة بحد ذاته تحديًا».
يؤكد حيدر أن «مشكلة المكتبات العامة لا تتوقف عند ندرة الكتب، بل تمتد إلى نقص الكوادر الفنية المتخصصة. فضعف المهارات الفنية في مجالات مثل الفهرسة والتصنيف واستخدام النظم المعلوماتية أصبح تحديًا إضافيًا، خصوصًا في ظل التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم. تحتاج المكتبات العامة إلى كوادر مدربة قادرة على استخدام أحدث نظم المكتبات الرقمية، وإتاحة الوصول إلى موارد المعرفة العالمية، بحيث تكون المكتبات قادرة على مواكبة التحول الرقمي المتسارع».
ويضيف حيدر أن «ضعف الإدارة وسوء التخطيط هما أحد العوامل الرئيسية وراء تراجع المكتبات العامة، خصوصًا الجامعية منها. ورغم احتواء المكتبات الجامعية على ثروات من الكتب النادرة والمخطوطات القيمة، إلا أن عدم استغلال هذه الموارد بالشكل الأمثل يعيق دورها كداعم رئيسي للعملية التعليمية والبحثية، ويقلل من كفاءتها في تلبية احتياجات الطلاب والأساتذة».
يرى حيدر أن «المكتبات العامة يجب أن تحظى بإدارة كفوءة ومتخصصة، قادرة على تنظيم الموارد وتسهيل الوصول إليها للقراء والباحثين». كما يدعو إلى تطوير برامج ثقافية تستهدف شرائح مختلفة من المجتمع، منها زيارات مدرسية وطلابية، وبرامج موجهة للأطفال لتنمية حب القراءة في نفوس الأجيال الصغيرة، مما يعزز الوعي الثقافي والمعرفي للمجتمع العراقي ككل.
يشدد حيدر على أن «المكتبات العامة بحاجة إلى دعم مادي وبشري يمكنها من مجاراة التطورات المتسارعة في مجال العلوم والتكنولوجيا»، مؤكداً أن «الاستثمار في تحديث أنظمة التصنيف والفهرسة، وتوفير مصادر المعرفة الرقمية، يعد خطوة أساسية لتسهيل الوصول إلى المحتوى العلمي والمعرفي».
وأضاف أن «تحقيق هذه الإصلاحات يتطلب توفير موارد مالية وبشرية كافية، إضافة إلى الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لجعل المكتبات مراكز حيوية للإبداع والتعليم، بما يعزز من مكانتها كمؤسسات ثقافية رائدة ومصدر أساسي لدعم البحث العلمي والتعليم في العراق».
في سياق حديثه عن واقع المكتبات الجامعية في العراق، أوضح الأستاذ الجامعي جاسم المالكي، رئيس مركز النماء الأخضر لتنمية المجتمع والبيئة، الفجوة الكبيرة بين المكتبات المحلية ونظيراتها في الجامعات العالمية، مسلطًا الضوء على أهمية تطوير المكتبات كجزء أساسي من تحسين جودة التعليم الجامعي.
يشير المالكي في حديث لـ(المدى) إلى أن «المكتبات في الجامعات العالمية لا تُعد مجرد أماكن لتخزين الكتب، بل هي بيئة تعليمية متكاملة»، موضحًا أن «تلك المكتبات مجهزة بأماكن دراسة مريحة، وحواسيب متصلة بإنترنت سريع، وتوفر الوصول إلى قواعد بيانات ودور نشر عالمية، كما أن الطلاب يمكنهم طلب المصادر غير المتاحة والتي عادة ما يتم توفيرها بسرعة». ويذكر تجربته في جامعة كوينزلاند في أستراليا كنموذج لتلك المكتبات المتطورة، حيث تعزز هذه التجهيزات من تجربة الطالب التعليمية، مما يرفع من مستواه البحثي والعلمي.
وفي المقابل، يعبر المالكي عن خيبة أمله من واقع المكتبات في الجامعات العراقية، مستندًا إلى تجربته الشخصية في جامعة البصرة. ويصف مكتبة كلية العلوم بأنها مكان محدود المحتويات، يضم فقط كتبًا قديمة بدون تجهيزات أو خدمات تواكب احتياجات الطلاب، حيث تفتقر المكتبة إلى مقاعد دراسية، إنترنت، وقواعد بيانات علمية، ما يصعّب على الطلاب إمكانية إجراء الأبحاث بشكل فعال.
إلى جانب تحديات المكتبات، تحدث المالكي عن طبيعة النظام التعليمي التقليدي المتبع في الجامعات العراقية، الذي يعتمد على أسلوب التلقين والحفظ من خلال المحاضرات الورقية، ما يجعل الامتحانات النهائية تعتمد في المقام الأول على القدرة على الحفظ. وبيّن أن هذا النظام لا يشجع الطلاب على التفكير النقدي والتحليل، ولا يعزز من مهاراتهم في البحث والإبداع، بينما ترتكز الأنظمة التعليمية العالمية على مهارات الفهم والتطبيق من خلال تقديم الأبحاث، والتقارير، والعروض التقديمية، والعمل الجماعي. وتخصص الجامعات العالمية نسبة صغيرة من التقييم للامتحانات النهائية، فيما يعتمد الجزء الأكبر على الأداء المستمر خلال العام الدراسي، ما يتيح للطلاب تطوير مهاراتهم وتحقيق نتائج أكاديمية أفضل.
دعا المالكي إلى ضرورة إعادة النظر في النظام التعليمي الجامعي في العراق، والتركيز على تحديث المكتبات الجامعية وتوفير بيئة مريحة ومتكاملة للطلاب تتماشى مع المعايير العالمية، مما يسهم في تطوير قدرات الطلاب وتأهيلهم بشكل أفضل لسوق العمل.
وتناول أستاذ الأدب أنمار حسين السامرائي من كلية الآداب بجامعة سامراء التحديات المتزايدة التي تواجه المكتبات الجامعية في العراق، حيث قال لـ(المدى) إن «التحول نحو البوابات والمكتبات الإلكترونية أصبح يغير بشكل جذري من دور المكتبات التقليدية ويقلل من اعتماد الطلاب والباحثين عليها».
وأوضح السامرائي أن «العزوف المتزايد عن زيارة المكتبات الجامعية يرتبط بتوفر المكتبات الإلكترونية، التي تتيح الوصول إلى كم هائل من المعلومات بسهولة وسرعة»، وأشار إلى أن «هذه البوابات الإلكترونية أصبحت وسيلة مفضلة للباحثين الذين يجدون فيها وسيلة أسرع وأكثر فاعلية للوصول إلى الأبحاث والدراسات المطلوبة، مما أدى إلى تراجع الاعتماد على المكتبات الورقية الموجودة داخل الجامعات».
كما لفت السامرائي إلى أن «الباحثين في مجال الدراسات الإنسانية يعتمدون على أدوات مثل الاستبانات لجمع وتحليل البيانات، مما يقلل من حاجتهم لزيارة المكتبات للحصول على مصادر ورقية. في حين أن الدراسات التطبيقية تعتمد بشكل أكبر على الأبحاث المنشورة في المواقع العلمية العالمية، مما يعزز دور المصادر الإلكترونية في البحث العلمي».
وأشار السامرائي إلى عامل إضافي في تراجع الإقبال على المكتبات الجامعية، وهو «توفر المكتبات الخارجية التي تقدم خدمات إعداد الأبحاث والأطروحات، ما يطرح تساؤلات عن مستقبل المكتبات الجامعية في العراق ودورها في دعم البحث العلمي في ظل التحول الرقمي المتسارع».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البرلمان يعقد جلسته برئاسة المشهداني

الأمم المتحدة: غزة تضم أكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف في العالم

هيئة الإعلام: إجراءاتنا تواجه فساد المتضررين

الهجرة تعلن بدء عودة العوائل اللبنانية وتقديم الدعم الشامل لها

اللجنة القانونية: القوانين الخلافية تعرقل الأداء التشريعي للبرلمان

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

التلوث الإشعاعي في بابل: كارثة صامتةتهدد الأرواح والبيئة
محليات

التلوث الإشعاعي في بابل: كارثة صامتةتهدد الأرواح والبيئة

 المدى/خاص يشكل التلوث الإشعاعي في محافظة بابل تهديدًا متزايدًا على صحة السكان والبيئة، وفقًا لتقارير محلية ودولية. مناطق متعددة في المحافظة، خاصةً تلك التي شهدت أنشطة عسكرية سابقة، تعاني من مستويات مرتفعة من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram