بغداد / تبارك عبد المجيد
باتت السرطانات العدو الخفي الذي يتسلل بصمت ليصبح الأكثر فتكًا بالعراقيين، ولم يعد انتشارها حكرًا على المناطق النفطية وحدها، بل امتد ليحوّل العراق بأسره إلى بؤرة لهذا المرض بأشكاله المتعددة.
وسط هذا المشهد القاتم، يشير مراقبون إلى أن التدخلات السياسية ونظام المحاصصة يلعبان دورًا محوريًا في تفاقم الأزمة، حيث أفرز سوء إدارة متجذرًا وفسادًا ماليًا في المؤسسات الصحية، ما حرم المواطنين من حقهم في نظام صحي فعّال قادر على مواجهة هذا التحدي المتصاعد.
دور المحاصصة في انتشار السرطان!
يُسلط المحلل السياسي علي البيدر الضوء على هذه الأزمة، مؤكدًا أن أعداد المصابين بأمراض خطيرة، ولا سيما السرطان، تشهد تزايدًا مستمرًا يتجاوز قدرات النظام الصحي المتاحة.
وأوضح البيدر في حديث لـ(المدى)، أن هذا الوضع الكارثي يثير أسئلة ملحة حول أسباب الانتشار السريع للسرطان، مشيرًا إلى غياب الدراسات العلمية العميقة التي يمكن أن تسهم في تفسير هذه الظاهرة ومعالجتها.
ويرى البيدر، أن "سوء الإدارة والتخطيط في القطاع الصحي هو أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا الإخفاق، فعلى الرغم من الثروات الهائلة التي يمتلكها العراق والميزانية الضخمة المخصصة لوزارة الصحة، إلا أن التدخلات السياسية والمحاصصة الطائفية عرقلت تطوير هذا القطاع الحيوي".
وأدى هذا التدخل، وفق البيدر إلى "غياب الخطط الفعالة للتعامل مع الأزمات الصحية، مما جعل النظام الصحي عاجزًا عن تلبية احتياجات المواطنين، خاصة في المحافظات التي تفتقر للبنية التحتية الصحية الأساسية".
ويشدد على أهمية إعادة هيكلة إدارة القطاع الصحي بشكل جذري للتخلص من تأثير التدخلات السياسية، داعيا إلى توجيه الموارد المالية الكبيرة نحو تحسين البنية التحتية الصحية، وضمان توفير العلاجات الضرورية للأمراض المزمنة والخطيرة.
آثار نفسية
من جانب آخر، تُبرز الباحثة الطبية نمارق جواد، رئيسة مؤسسة ANN للتنمية المستدامة وحقوق الإنسان، التحديات اليومية التي يواجهها مرضى السرطان في العراق، فيما أشارت إلى أن علاجات السرطان الشاقة مثل الجراحة، والعلاج الكيميائي والإشعاعي، والعلاج المناعي، تترك آثارًا جسدية ونفسية عميقة على المرضى.
وشرحت جواد لـ(المدى)، أن "السرطان وعلاجاته غالبًا ما تسبب تغيرات جسدية كبيرة تؤثر على مظهر المريض ووظائف أعضائه، مما يؤدي إلى انخفاض حاد في الثقة بالنفس". وأوضحت أن "الألم المزمن، وهو أحد الأعراض الرئيسية المرتبطة بالسرطان، يصعب السيطرة عليه في كثير من الأحيان، ما يفاقم من معاناة المرضى. إلى جانب ذلك، يعاني المرضى من شعور مستمر بالتعب والإرهاق الذي لا ينتهي حتى بعد انتهاء العلاج".
لكن التحديات لا تتوقف عند الألم الجسدي، بل تتعداه لتشمل تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة. تقول جواد إن "العديد من المرضى يعيشون في حالة قلق دائم وخوف من المستقبل، سواء من احتمالية عودة المرض أو من تدهور حالتهم الصحية. كما أن التشخيص بالسرطان نفسه يسبب صدمة نفسية كبيرة تترك آثارًا طويلة الأمد، ما يجعل الكثيرين يعانون من الاكتئاب والقلق".
العزلة الاجتماعية تُعد من أبرز المشاكل التي يواجهها مرضى السرطان، إذ يجد المرضى صعوبة في المشاركة بالأنشطة الاجتماعية بسبب الروتين اليومي الذي يفرضه المرض وعلاجاته المرهقة. وأشارت جواد إلى أن العبء المالي للعلاج يثقل كاهل المرضى وأسرهم، حيث أن التكاليف العالية تجعل من العلاج عبئًا إضافيًا فوق المعاناة الجسدية والنفسية.
رغم هذه التحديات الهائلة، أكدت جواد على أهمية الدعم النفسي والاجتماعي للمرضى، مشيرة إلى أن "العلاج النفسي، ومجموعات الدعم، والمساندة التي يقدمها الأصدقاء والعائلة يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في تحسين نوعية حياة المرضى"، وأوضحت أن الدعم النفسي والاجتماعي يُعد جزءًا أساسيًا من رحلة العلاج، حيث يساعد المرضى على التكيف مع مرضهم ومواجهة الصعوبات التي يفرضها.
وأشارت إلى "انتشار تجارة الأدوية المهربة وغير المرخصة نتيجة نقص التجهيزات في وزارة الصحة، معتبراً أن هذه الظاهرة تضيف عبئاً جديداً على المرضى بسبب عدم استقرار الأدوية وتأثيرها على فعالية العلاج".
معاناة صحية واقتصادية
وكانت وزارة الصحة العراقية قد كشفت عن تقرير سنوي ارفقهٌ المتحدث باسمها، سيف البدر، لمراسل (المدى)، يحتوي على إحصائيات حديثة حول مرض السرطان في البلاد.
التقرير، الذي استند إلى بيانات من المختبرات الحكومية والأهلية لعام 2023، أشار إلى تسجيل 43,062 حالة سرطان جديدة، مع تصدّر محافظة أربيل أعلى معدلات الإصابة، في حين سجلت كركوك أقل الأرقام. وتضمن التقرير توضيحًا بأن الفئة العمرية الأكثر تأثرًا هي ما بين 70 و74 عامًا، مع وجود أكثر من 10 أنواع شائعة من المرض لدى كلا الجنسين.
من جانبها انتقدت طبيبة الأورام، وداد الحمداني غياب نظام صحي فعال للكشف المبكر عن السرطان في العراق، موضحةً لـ (المدى)، أن "ضعف الإمكانيات في وزارة الصحة يؤدي إلى تأخر اكتشاف المرض، الوزارة لا تبادر بإطلاق حملات دورية للكشف المبكر، ما يترك المرضى في مواجهة مسؤولية المبادرة بأنفسهم".
وأشارت إلى، أن "غياب نظام السجلات الصحية الإلكترونية التي تتابع الحالة الصحية للأفراد منذ الطفولة يفاقم الأزمة، حيث تُترك بعض الحالات دون تشخيص دقيق لسنوات، مع مراجعة المرضى لأطباء غير مختصين، مما يؤدي إلى تفاقم حالاتهم.
وتطرقت إلى التحديات الاقتصادية التي تواجه مرضى السرطان في العراق، منها تكاليف العلاج التي تصل إلى مستويات تفوق قدرة المواطن العادي. وذكرت أن "بعض جرعات العلاج الكيميائي تبلغ آلاف الدولارات، ما يجعلها خارج متناول غالبية المرضى، ويزيد من معاناتهم الصحية والاقتصادية".
ودعت الحمداني إلى تبني خطوات جادة لمعالجة الأزمة، أبرزها، تحسين البنية التحتية للصرف ووضع ضوابط صارمة على المطاعم والمنتجات المستوردة لضمان سلامتها. توفير الأجهزة الطبية الحديثة مثل أجهزة التصوير الإشعاعي والعلاج بالطب النووي، لتقليل الحاجة إلى السفر للخارج، بالإضافة الى إطلاق حملات للكشف المبكر: تنظيم فحوصات دورية للكشف عن السرطان، خاصة في المناطق التي تشهد انتشاراً واسعاً للمرض. واشارت الى أن "الحلول الجزئية لن تكون كافية لاحتواء أزمة السرطان"، كما حذرت من الفساد الإداري وسوء الإدارة: "يزيدان الوضع سوءًا. ضعف البنية التحتية الصحية وغياب الشفافية في إدارة الموارد يعيق الجهود المبذولة لتحسين الخدمات الطبية وتطويرها، ما يفاقم معاناة المرضى ويزيد من أعبائهم".
وترى أيضا أن "الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد تلعب دورًا كبيرًا في تفاقم معاناة مرضى السرطان. فالنزاعات المستمرة وعدم الاستقرار السياسي يؤثران بشكل مباشر على قدرة النظام الصحي على تقديم خدمات فعالة وشاملة. كما أن الأزمات الاقتصادية تُضعف الميزانيات المخصصة لقطاع الصحة، مما يؤثر سلبًا على جودة الخدمات المقدمة".
وأضافت أن "ظروف الفقر وانخفاض مستوى التعليم يحدّان من فرص الحصول على الرعاية الصحية، مما يزيد من تفاقم المشكلة. ففي المناطق النائية، تعاني المجتمعات من نقص حاد في المرافق الطبية المتخصصة، ما يجعل من الصعب على المرضى تلقي الرعاية اللازمة. فضلا عن التكاليف الباهظة للإجراءات الطبية تضع عبئًا ماليًا كبيرًا على الأسر، ما يؤدي إلى تعميق الفجوة الطبقية في الوصول إلى الخدمات الصحية، وحرمان الكثيرين من حق أساسي".