ستار كاووش
أكملَ القطار القادم من النمسا طريقه نحو ألمانيا، وما أن عَبَرَ الحدود حتى توقف في محطة مدينة باساو، وهي مدينة تاريخية يخترقها نهر الدانوب. صعدَ الكثير من المسافرين ليكمل القطار طريقه محاذياً النهر كأنه لا يريد فراقه، وصارا يسيران معاً مثل صديقين يعرفان بعضهما جيداً، النهر يتدفق، والقطار يتمايل مسابقاً النهر العظيم الذي ينبسط ويمتد حتى خِلتهُ بلا نهاية.
هكذا استمرّ القطار بمحاذاة ضفة النهر الذي كانت تجوبه بعض الزوارق، فيما بانت على الضفة الأخرى بعض البيوت والأشجار التي انعكست صورتها متلألئة على سطح الماء، وقد ذكرني هذا المشهد بلوحة غوستاف كليمت التي رسم فيها بحيرة غاردا. كانت بعض الكارافانات والمخيمات على الضفة القريبة، هي آخر ما تبقى لنا من النهر، حيث إفترق عنه القطار، كأنه يختصر الطريق بإتجاه مدينة هانوفر، وإنفتحَ بعدها الأفق وهو يَعلِنَ عن سلسلة من الجبال البعيدة بلونها الرمادي المائل الى الأزرق وكانّها سياج ضخم يحمي المزارع الصغيرة المتناثرة.
كل شيء هنا يحيلك الى اللون الأخضر، ولا يمكنني أن أتخيل رساماً يعيش مثل هذه اللحظات دون أن تتأثر لوحاته باللون الأخضر وتدرجاته غير المتناهية، حيث تطرح الحقول تناغماتها وتكشف الأرض عن كنوزها بهيئات مختلفة، مثلما كشفت عن الأبقار المبقعة بالأسود والأبيض وسط أحد الحقول الواسعة، حتى تخيلتُ نفسي أشاهد معرضاً كرافيكياً لأعمال الحفر على الخشب. وبجانب مزرعة الأبقار إنتصبَ مصنع للحليب بخزاناته وأنابيبه البيض الضخمة التي أحالَتْ المشهد الى واحدة من لوحات فرناند ليجيه الذي كان يرسم كل مفردات لوحاته تقريباً بهيئة أنابيب وأشكال هندسية.
مرَّ القطار ببعض المحطات الصغيرة، ليتوقف بعدها في محطة مدينة بريمن بشكلها المقوس ولونها الأحمر والتي تم بناؤها نهاية القرن التاسع عشر على طراز الكلاسيكية الجديدة، فإستعدتُ جولتي السابقة وسط هذه المدينة ووقوفي أمام منحوتتها البرونزية الطريفة والشهيرة، والتي تمثل حماراً وكلباً وقطاً وديكاً يقفان فوق بعضهم بالتسلسل، ليحكوا إحدى القصص التراثية لهذه المدينة. وبعد أن صعد بعض المسافرين إقترب أحد الشباب صحبة صديقته وجلسا قبالتي. أكملنا الطريق وأخذتُ أجول ببصري بين الحقول المفتوحة نحو الأفق، حتى خطفتْ كنيسة بمحاذة سكة القطار، كانت ساعتها تشير إلى الثالثة والنصف ظهراً، وبمحاذاتها إصطفت بعض البيوت التي تتقدمها حدائق كبيرة، حيث وقفَ أحد الفلاحين وسط إحداها منشغلاً بتقطيع خشب الحطب، فيما وقفتْ زوجته على مقربة منه، في مشهد يعيد تشكيل لوحة ميليه (ترنيمة المساء) وقد رُصَّتْ خلفهما قطع الخشب بلونها الذي بدا أقرب للأحمر. بجانب هذه البيوت تداخلت مجموعة من الأشجار، فيما إنعزلتْ على مبعدة منها شجرة وحيدة بدتْ مثل شخص وحيد، لكنها مع ذلك بدتْ سعيدة بخلوتها تحت السماء الصافية. بعدها بقليل إنفتحت مزرعة للقرع الأصفر الذي التمعت حباته الكبيرة وسط الأوراق الخضر مثل قطّع الفسيفساء، وإكتملتْ الصورة بثلاثة صفوف من أشجار السرو التي تَلَوَّتْ أغصانها نحو الأعلى وكانّها قد ظهرتْ تواً من واحدة من لوحات فان خوخ.
مدّ الشاب متردداً ساقه الطويلة نحو الجهة التي أجلس فيها، فأومأت له برأسي علامة على أن يأخذ راحته، وأخذت اتطلع من خلال النافذة نحو البحيرة الصغيرة التي ظهرت بشكلها غير المنتظم، محاطة بشجيرات صغيرة ونباتات بأوراق طويلة بلون أخضر يقترب من الأزرق، وقد إنعكست على سطح البحيرة خيوط من ضوء الشمس بلونها البرتقالي الذي يعلن عن إقتراب المغيب، وقد بدا المنظر موحشاً لكنه جزء من الطبيعة البكر التي ترمي فطرتها هنا وهناك لتقول بأنني الأصل.
تمايل القطار وهو ينعطف وسط حقول عباد الشمس، ليدخل تحت نفق حُفِرَ تحت أحد المرتفعات، وخرجَ نحو الجهة الاخرى وهو يبطيء سرعته مقترباً من احدي المحطات الصغيرة، وقبل أن يتوقف القطار لامسته بعض أوراق النباتات، التي أخذت تمسد على زجاج النافذة مع حركة القطار المعاكسة وكأنها تُحَيِّي المسافرين.
وهكذا لم يكف القطار عن السير ثم التوقف، لا يلوي على شيء في سبيل الوصول الى محطته الأخيرة. وأنا بطبيعتي لا أكف عن النظر نحو الحياة التي تمضي خلفي والحياة التي تظهر أمامي، أشجار تودعني ونباتات تستقبلني، أعشاب بأوراق مختلفة تتماهى خلف القطار، وزهور متنوعة تمد رؤوسها من بعيد وكانّها ترشد القطار إلى الطريق الصحيح، هكذا تُعلن الطبيعة عن نفسها في رحلة جميلة وسط الطبيعة الآسرة التي تمنح وتعطي وتمد يديها مثل أم رؤوم. وأنا على هذا الحال، إنبقَ أمامي عدد من طواحين الهواء التي تدور وتتمطى في الهواء، فعرفتُ بأننا قد دخلنا هولندا التي تنتشر فيها الطواحين كما ينتشر الورد. يا للطواحين التي بزغت وسط الطريق، تدور وكأنها تُلقي عليَّ التحية مرحبة بوصولي الى هولندا، في مشهدٍ مليء بالعاطفة والحبور.