TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > السياسة في العراق بوصفها مهاترات وثرثرة

السياسة في العراق بوصفها مهاترات وثرثرة

نشر في: 25 مارس, 2025: 12:03 ص

إياد العنبر

ربما يحمل عنوان المقال نبرة تهكم على التعريف العام للسياسة بأنها "فن الممكن"، وربما أيضا يحاكي عنوان المرجع الأهم في علم السياسة لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتابه "العلم والسياسة بوصفهما حرفة". وبما أن السياسة في العراق بعيده عن المفهوم والممارسة العلمية، فهي قريبة من المهاترات والثرثرة والخطابات الحماسية الأيديولوجية.
وفي شهر رمضان يتحول قادة الأحزاب والشخصيات الحكومية والسياسية إلى نجوم شاشة، إذ يكونون ضيوفا على البرامج الحوارية السياسية التي تبدأ بها السهرات الرمضانية في بعض القنوات الفضائية. وكالعادة تتحول اللقاءات إلى استعراضات بالمواقف التي تتحدث عن الإنجازات الكبرى التي حققها هؤلاء، وعن المؤامرات الكبرى التي يحيكها أعداء العراق والمذهب والقومية، وعن تحديد معايير جديدة لما هو وطني ومن هو عميل للأجنبي. وعن المعارك التي تتم التهيئة لها بين الأصدقاء-الأعداء استعدادا للانتخابات القادمة.
وبالعودة إلى المقاربات النظرية في علم السياسة، نجد أن فيبر في كتابه "العلم والسياسة بوصفهما حرفة" يُميز بين طريقتين يمكن بهما جعل السياسة حرفة: الأولى، إما أن يعيش المرء "لأجل" السياسة. والثانية، أن يعيش "من" السياسة. والفرق يتعلق بالجانب الاقتصادي، فمن يعتبر السياسة وظيفة يعتاش منها هو الذي يسعى إلى أن يجعل منها مصدر دخل دائم له. أما من يحيا من "أجل" السياسة فهو يجعل منها، بالمعنى الأعمق للكلمة، "هدف حياته"، فهو إما يلتذ بالسلطة التي يمارسها بمجرد امتلاكه لها، أو لأنها تؤمّن له توازنه الداخلي أو تعبر عن قيمة شخصية، إذ يعني أنه قد جعل نفسه في خدمة قضية تعطي حياته معنى.
نموذج رجل السياسة في العراق يجمع بين الطريقتين، فهو يعتقد أن أقصر الطرق نحو الثروة وحياة الرفاهية هي العمل السياسي، وكذلك تعاظم الثروة المالية والحفاظ عليها يتم من خلال النفوذ السياسي. وأيضا، الطريق نحو الشعور بالسطوة والمكانة الاجتماعية وتعظيم الذات يتم من خلال المكانة السياسية. ولذلك يقدم السياسيون العراقيون أنفسهم باعتبارهم حاملي لواء الدفاع عن المكون المذهبي أو القومي، ونجدهم عندما يتحدثون بخطاب يوحي بأنهم يمثلون الطائفة وغيرهم لا، وأنهم يمثلون العراق، وغيرهم لا!
لذلك، يمكن وصف نظامنا السياسي بأنه نظام الحكم "البلوتوقراطي": وهو النظام السياسي الذي تكون فيه الطبقات السياسية المسيطرة والماسكة بزمام السلطة طبقة الأغنياء وأصحاب الثروات. مع الاختلاف حول أنه في الأعم الأغلب من ساسة العراق أصبحوا من طبقة الأغنياء وأصحاب الثروات بعد عملهم بالسياسة وليس قبل دخولهم العمل السياسي. ومن هنا يكون الوضع أكثر تعقيدا في هذا النظام، إذ تصبح وظيفة الطبقة الحاكمة المحافظة على منظومة الحكم لضمان إدامة نفوذها السياسي الذي يضمن حصتها من الاقتصاد الريعي والسيطرة على النشاط الاقتصادي في الدولة. وعليه، يكون الوصف الأكثر دقة لنظام الحكم في العراق هو نظام "حكم اللصوص" (الكليبتوقراطية- Kleptocracy) وتعرفه الأدبيات السياسية بأنه النظام الذي يسمح بالفساد وسرقة المال العام والخاص من خلال تسهيل استغلال المناصب الإدارية والسياسية من قبل القائمين على مرافق الدولة، ويعبر عن نظام حكم جوهره الفساد واللصوصية أو نهب الثروات العامة.
الغرور السياسي
لدينا الكثير من العناوين السياسية التي تروج لها الحاشية أو الأتباع لقيادات الطبقة الحاكمة، فتارة يكون "دولة الرئيس"، وأخرى "المعالي"، ومرة "الزعيم". ومع تكرار هذه الأوصاف، باتت الشخصيات السياسية لا تتقبل أن تسمع أسماءها من دون هذه الألقاب!
وهناك مفارقة مهمة، أن من يصل إلى المنصب السياسي يتوهم في نفسه أنه "رجل دولة"، وفي كثير من الأحيان تصل شخصيات إلى المناصب العليا بطريق الصدفة، أو ربما كل مؤهلاتها أنها قريبة من "الزعيم" أو "القائد" أو رئيس الحزب! وفيما بعد يتم التغافل عن حقيقة الوصول إلى المنصب، ويبدأ الحديث بالخطط والاستراتيجيات والمنجزات. ومن ثم، يبدأ سقف الطموح السياسي يرتفع حتى يطرح نفسه "قائدا سياسيا" للمرحلة القادمة!
معظم رؤساء الحكومات السابقة وصلوا إلى المنصب في لحظة الدخول في التوقيت الحرج لاستحقاق حسم منصب رئيس الوزراء، واحتدام الجدل بشأن الشخصيات المرشحة للمنصب، ليقع الاختيار على شخصية توافقية لم تكن مطروحة في النقاشات، ولا علاقة لها بالخبرة والحنكة السياسية ولا حتى الإدارية. وربما يتم فرضه بإرادة خارجية قبل أن يكون هناك توافق داخلي، ويتم القبول به بعد أن يقدم فروض الطاعة لجميع "الزعامات" السياسية، ويتعهد بإدامة مكاسبها من غنائم السلطة والموافقة على اشتراطاتها بتوزيع الوزارات والمناصب العليا.
وطوال فترة وجوده في المنصب، لا يجيد غير التشكي والتذمر من هيمنة قادة الكتل على القرار السياسي، ومن عرقلة خطط الحكومة بغرض التسقيط السياسي! وبعد خروجه من المنصب يبدأ في سرد المؤامرات التي تعرضت لها حكومته، وعن المشاريع التي شرعت الحكومة في تنفيذها، لكن القوى السياسية عرقلت تنفيذها وإنجازها!
عندما تسمع أحاديث السياسيين عن تقييم الأزمات السياسية، وعن احتمالية تطورها وحديثهم بلغة توحي إلى المتلقي بأن الأفق السياسي الذي يتحدثون به يمكن أن يحقق التنمية والإعمار ويمكن أن يرسم خارطة طريق لتجاوز الأزمات. ولكنهم في الحقيقة عندما كانوا في موقع اتخاذ القرار، لم ينفذوا أي شيء من هذه الخطط والمشاريع التي صدعوا رؤوسنا بها في كل لقاء تلفزيوني. أو إذا كانت المشاريع والمنجزات التي يتحدثون عنها موجودة فعلا، فلماذا الفوضى والخراب الذي يحيط بجميع تفاصيل حياتنا اليومية؟
إذن، يبدو أن هناك حالة من الانفصام عن الواقع، أو العيش في خيال سياسي يتوقعون فيه أنهم قدموا منجزات. ولولا وجودهم في المنصب لأصبح العراق في خبر كان، أو أن نار الحرب الأهلية لا تبقي ولا تذر. وأن المال العام كان عرضه للنهب والسلب، لولا حمايتهم لأموال العراقيين!
المشكلة الحقيقية أن الطبقة الحاكمة باتت تعتقد أن وجودها في السلطة هو استحقاق سياسي لها، وجميعهم يتحدثون عن مصلحة العراق، والدفاع عن الدولة. وفي الوقت ذاته، لا يريدون مغادرة خطابهم الطائفي والقومي، ودفاعهم عن وجود سلاحهم الموازي لسلاح الدولة. أو الذي تحولت وظيفته إلى إلغاء الدولة ومؤسساتها وكيانها!
ويختزل ساستنا فهمهم للسياسة باعتبارها فن تبرير أفعالهم المتناقضة مع شعاراتهم و"مبادئهم" التي يصدحون بها في اللقاءات التلفزيونية وتصريحاتهم الإعلامية وخطاباتهم مع قرب مواسم الانتخابات. لذلك تجدهم يتحولون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويتناقضون في مواقفهم من الرفض والتخوين والاتهام بالعمالة للأجنبي وتنفيذ إراداتهم، إلى ممارسة نفس أفعال خصومهم الذين يتهمونهم بالخيانة!
لا يوجد معيار يمكن أن تحاكم به الطبقة السياسية وزعماءها على مواقفهم، فتارة يتحدثون عن مبادئ عقائدية أو أيديولوجية، وتارة أخرى يتحدثون عن مبدأ المصلحة العامة. ولكنهم لا يتحرجون في أن تخالف أفعالهم ادعاءهم العقائدي أو مبدأ المصالح العامة التي هي في الحقيقة مصلحتهم الخاصة. ويستند خطاب التبرير السياسي لتقلبات مواقفهم إلى إجبار الواقع على الدخول في قوالب تجارب تاريخية وإسقاط معطياتها ونتائجها لتبرير الفعل أو الموقف السياسي.
العلاقة مع الأميركيين
لحد الآن لا يوجد تصور أو موقف واضح للتعاطي مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ماذا يمكن أن تكون سياسة العراق تجاه استراتيجية "الضغط الأقصى" تجاه إيران، وكيفية إبعاد العراق عن آثارها؟
ورغم أن الصورة لا تزال ضبابية بشأن الخطوات الأميركية التي سوف تضغط فيها على العراق لفك ارتباطه عن المحور الإيراني. فإن جميع القوى السياسية تشعر بوجود تهديد في المرحلة القادمة. وقد لا يتم الحديث حاليا عن أدوات تنفيذ الاستراتيجية الأميركية في العراق في المرحلة القادمة. ولكن قراءة التغيرات في المنطقة والتوجه نحو إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد بعيدا عن النفوذ الإقليمي الإيراني، أصبح واقعا لا يمكن تجاهل خطواته.
حكومة محمد شياع السوداني ومن خلال مستشاريها، تؤكد أن العلاقة مع الأميركيين هادئة ومستقرة ولا توجد تهديدات، كما تروج لها أطراف سياسية شريكة لهذه الحكومة أو معارضة لها من خارج العراق. ولكن حديث وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو في اتصاله مع رئيس الوزراء العراقي كان محوره الأساسي "سبل الحد من النفوذ الإيراني الخبيث" حسب بيان السفارة الأميركية في بغداد. وهي إشارة واضحة إلى أن صناع القرار السياسي الأميركي لا يزالون ينظرون إلى أن الضغط على العراق هو أحد أهم أدواتها في الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة.
وفي الاتصال بين رئيس الوزراء ومستشار الأمن القومي الأميركي مايكل والتز، كانت الإشارة واضحة بشأن إنهاء استثناء الكهرباء المجهزة من إيران حيث يرتبط بسياسة الضغط الأقصى التي تتبعها الولايات المتحدة تجاه إيران والذي يعني أن سياسة العراق الخارجية لم تنجح في إقناع الأميركيين بفك الارتباط بين تعاملها مع العراق بعيدا عن علاقتها المتوترة مع إيران.
ولذلك تبقى كل التصريحات السياسية التي تحاول أن تستخف بالضغط الأميركي تجاه العراق في المرحلة القادمة، أو تحاول أن تقلل من تأثيرها على العملية السياسية في العراق. يمكن أن تكون نوعا من الغرور السياسي أو أنها تتعامل مع السياسة باعتبارها ثرثرة وفن المهاترات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

اليوم.. انطلاق جولة جديدة من دوري نجوم العراق

إسرائيل تهدد لبنان: لن نسمح بالعودة الى واقع 7 اكتوبر

بعد العيد.. اتحاد الكرة: سنحسم ملف مدرب المنتخب الوطني

حزب الله ينفي صلته بقصف شمال فلسطين

الجيش السوداني يعلن السيطرة الكاملة على الخرطوم

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سافرات العبادي

العمود الثامن: غزوة علي الطالقاني

قناطر: البصرة في جذع النخلة.. الطالقاني على الكورنيش

كيف يحرر التفكير النقدي عقولنا من قيود الجهل والتبعية؟

العمود الثامن: العدالة على الطريقة العراقية

العمود الثامن: السعادة على توقيت الإمارات

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجزعن مواجهة واقع يسير بنا إلى...
علي حسين

كلاكيت: عن (السينمائي) وعبد العليم البناء

 علاء المفرجي علاقتي مع (السينمائي) لها حكاية، تبدأ من اختياري لها لكتابة عمودي (كلاكيت) منذ عددها الأول، ولا تنتهي بعددها الأخير. ولئن (السينمائي) تحتفل بعشريتها الأولى، كان لزاما عليّ أن أحتفل معها بهذا...
علاء المفرجي

تركيا تواجه التحول الجيوسياسي الناجم عن عودة دونالد ترامب إلى السلطة

جان ماركو ترجمة: عدوية الهلالي في الأسابيع الأخيرة، ومع ظهور الديناميكيات الجديدة للجغرافيا السياسية لترامب، تركز الاهتمام إلى حد كبير على اللاعبين الرئيسيين في الساحة الدولية، بدلاً من التركيز على دول الطرف الثالث التي...
جان ماركو

منطق القوة وقوة المنطق.. أين يتجه صراع طهران وواشنطن؟

محمد علي الحيدري يبدو أن ملف التفاوض بين إيران والولايات المتحدة دخل مرحلة جديدة من التعقيد، ليس بسبب طبيعة الخلافات القديمة، بل نتيجة تبدّل ميزان القوى الإقليمي والدولي، الذي بات يفرض مقاربة مختلفة عن...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram